القرآن الكريم والسُنَّة النبوية والاعجاز
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

القرآن الكريم والسُنَّة النبوية والاعجاز

القرآن الكريم والسُنَّة النبوية والاعجاز كنز ورسالة لمنهج حياة للعالم الإسلامي اجمع
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 4240
تاريخ التسجيل : 20/01/2018

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي      تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Emptyالجمعة مارس 02, 2018 5:43 am

۞بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ۞
۞ٱلْسَلآمّ ٍعَلْيّكَمُ وٍرٍحَمُةٌ اللَّــْـْہ ۆبُركَاته۞
۞أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ من ♥️هَمْزِهِ، ♥️ونَفْثِهِ،♥️ونَفْخِهِ۞
۞الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ۞
۞أَشْهَدُ أَنّ لَّا إِلَٰهَ إِلَّإ الله ♥️وأَشْهَدُ ان محمداً رسول الله۞
۞تحية من عند الله طيبة مباركة۞

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 %D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8%B3%D9%88%D8%B1%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A1
  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 282

.سورة الإسراء:

.تفسير الآية رقم (1):

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}
استهل الحق سبحانه هذه السورة بقوله(سُبْحَانَ)؛ لأنها تتحدث عن حدث عظيم خارق للعادة، ومعنى سبحانه: أي تنزيهاً لله تعالى تنزيهاً مطلقاً، أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق، لا في الذات، فلا ذاتَ كذاته، ولا في الصفات فلا صفات كصفاته، ولا في الأفعال، فليس في أفعال خَلْقه ما يُشبِه أفعاله تعالى.
فإن قيل لك: الله موجود وأنت موجود، فنزّه الله أن يكون وجوده كوجودك؛ لأن وجودك من عدم، وليس ذاتياً فيك، ووجوده سبحانه ليس من عدم، وهو ذاتي فيه سبحانه.
فذاته سبحانه لا مثيلَ لها، ولا شبيه في ذوات خلقه. وكذلك إن قيل: سَمْع والله سمع. فنزِّه الله أنْ يُشابه سمعُه سمعَك، وإن قيل: لك فِعْل، ولله فِعْل فنزِّه الله أن يكون فعله كفعلك.
ومن معاني(سُبْحَان) أي: أتعجب من قدرة الله.
إذن: كلمة(سُبْحَان) جاءت هنا لتشير إلى أنَّ ما بعدها أمرٌ خارج عن نطاق قدرات البشر، فإذا ما سمعتَه إياك أنْ تعترضَ أو تقول: كيف يحدث هذا؟ بل نزِّه الله أن يُشابه فِعْلُه فِعْلَ البشر، فإن قال لك: إنه أسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيتَ المقدس في ليلة، مع أنهم يضربون إليها أكباد الإبل شهراً، فإياك أن تنكر.
فربك لم يقُلْ: سَرَى محمد، بل أُسْرِي به. فالفعل ليس لمحمد ولكنه لله، وما دام الفعل لله فلا تُخضعْه لمقاييس الزمن لديك، ففِعْل الله ليس علاجاً ومزاولة كفعل البشر.
ولو تأملنا كلمة(سُبْحَان) نجدها في الأشياء التي ضاقتْ فيها العقول، وتحيَّرتْ في إدراكها وفي الأشياء العجيبة، مثل قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36].
فالأزواج أي: الزوجين الذكر والأنثى، ومنهما يتم التكاثر في النبات، وفي الإنسان وقد فسر لنا العلم الحديث قوله: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} بما توصَّل إليه من اكتشاف الذرة والكهرباء، وأن فيهما السالب والموجب الذي يساوي الذكر والأنثى؛ لذلك قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].
ومنها قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17].
فمَنْ يطالع صفحة الكون عند شروق الشمس وعند غروبها، ويرى كيف يحُلُّ الظلام محلَّ الضياء، أو الضياء محل الظلام، لا يملك أمام هذه الآية إلا أن يقول: سبحان الله.
ومنها قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13].
هذه كلها أمور عجيبة، لا يقدر عليها إلا الله، وردتْ فيها كلمة(سبحان) في خلال السور وفي طيّات الآيات.
و(سُبْحَان) اسم يدلُّ على الثبوت والدوام، فكأن تنزيه الله موجود وثابت له سبحانه قبل أن يوجد المنزِّه، كما نقول في الخلق، فالله خالق ومُتصف بهذه الصفة قبل أنْ يخلق شيئاً.
وكما تقول: فلان شاعر، فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة، فلو لم يكن شاعراً ما قالها.
إذن: تنزيه الله ثابت له قبل أن يوجد مَنْ يُنزِّهه سبحانه، فإذا وُجِد المنزّه تحوَّل الأسلوب من الاسم إلى الفعل، فقال سبحانه: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الحشر: 1].
وهل سبَّح وسكت وانتهى التسبيح؟ لا، بل: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجمعة: 1].
على سبيل الدوام والاستمرار، وما دام الأمر كذلك والتسبيح ثابت له، وتُسبِّح له الكائنات في الماضي والحاضر، فلا تتقاعس أنت أيُّها المكلَّف عن تسبيح ربك، يقول تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1].
وقولهSadأُسْرِي) من السُّرى، وهو السير ليلاً، وفي الحِكَمSadعند الصباح يحمَدُ القوم السُّرى).
فالحق سبحانه أسرى بعبد، فالفعل لله تعالى، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تَقِسْ الفعل بمقياس البشر، ونزِّه فِعْل الله عن فِعْلك، وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذِّب. فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وهم كاذبون في قولهم؛ لأن رسول الله لم يَدَّع أنه سَرَى بل قال: أُسْرِي بي.
ومعلوم أن قَطْع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة. أي: أن الزمن يتناسب عكسياً مع القوة، فلو أردنا مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية سيختلف الزمن لو سِرْنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة، فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن، فما بالك لو نسب الفعل والسرعة إلى الله تعالى، إذا كان الفعل من الله فلا زمن.
فإنْ قال قائل: ما دام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن، لماذا لم يَأْتِ الإسراء لمحةً فحسْب، ولماذا استغرق ليلة؟
نقول: لأن هناك فرْقاً بين قطْع المسافات بقانون الله سبحانه وبين مَرَاءٍ عُرِضَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق، فرأى مواقف، وتكلَّم مع أشخاص، ورأى آيات وعجائب، هذه هي التي استغرقت الزمن.
وقلنا: إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قَدْر قوة الفاعل. هَبْ أن قائلاً قال لك: أنا صعدتُ بابني الرضيع قمة جبل (إفرست)، هل تقول له: كيف صعد ابنك الرضيع قمة (إفرست)؟
هذا سؤال إذن في غير محلِّه، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى: أنا أسريتُ بعبدي، فمن أراد أنْ يُحيل المسألة ويُنكرها، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد.
لكن كيف فاتتْ هذه القضية على كفار مكة؟
ومن تكذيب كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رَدّاً جميلاً على هؤلاء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة وبإيمانية سطحية في عصرنا الحاضر، فيطالعونا بأفكار سقيمة ما أنزل الله بها من سلطان.
ونسمع منهم مَنْ يقول: إن الإسراء كان منَاماً، أو كان بالروح دون الجسد.
ونقول لهؤلاء: لو قال محمد لقومه: أنا رأيتُ في الرؤيا بيت المقدس، هل كانوا يُكذِّبونه؟ ولو قال لهم: لقد سبحتْ روحي الليلة حتى أتتْ بيت المقدس، أكانوا يُكذِّبونه؟ أتُكذَّب الرّؤى أو حركة الأرواح؟!
إذن: في إنكار الكفار على رسول الله وتكذيبهم له دليل على أن الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم برُوحه وجسده، وكأن الحق سبحانه ادَّخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس، ليردّ به على مُكذّبي اليوم.
وقوله سبحانه: {بِعَبْدِهِ..} [الإسراء: 1].
العبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معاً، هذا مدلولها، لا يمكن أن تُطلَق على الروح فقط.
لكن، لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بالذات؟
نقول: لأن الله تعالى جعل في الكون قانوناً عاماً للناس، وقد يُخرَق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزةً للخاصة الذين ميَّزهم الله عن سائر الخَلْق، فكأن كلمة(عبده) هي حيثية الإسراء.
أي: أُسْرِي به؛ لأنه صادق العبودية لله، وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أنْ يكون له مَيْزة وخصوصية عن غيره، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقَّه رسوله بما حقّق من عبودية لله.
وفَرْق بين العبودية لله والعبودية للبشر، فالعبودية لله عِزٌّ وشرف يأخذ بها العبدُ خَيْرَ سيده، وقال الشاعر:
وَمِمّا زَادَني شَرَفاً وَعِزّاً ** وكِدْتُ بأخْمُصِي أَطَأَ الثُّريَّا

دُخُولِي تَحْتَ قولِكَ يَا عِبَادِي ** وَأنْ صَيَّرت أحمدَ لِي نبيّاً

أما عبودية البشر للبشر فنقْصٌ ومذلَّة وهوان، حيث يأخذ السيد خَيْر عبده، ويحرمه ثمره كَدِّه.
لذلك، فالمتتبّع لآيات القرآن يجد أن العبودية لا تأتي إلا في المواقف العظيمة مثل: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ..} [الإسراء: 1].
وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ..} [الجن: 19].
ويكفيك عِزاً وكرامة أنك إذا أردتَ مقابلة سيدك أن يكون الأمر في يدك، فما عليكَ إلا أنْ تتوضأ وتنوي المقابلة قائلاً: الله أكبر، فتكون في معية الله عز وجل في لقاء تحدد أنت مكانه ومُوعده ومُدّته، وتختار أنت موضوع المقابلة، وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردتَ.
وما أحسنَ ما قال الشاعر:
حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بِأَنِّي عَبْدٌ ** يَحْتَفِي بِي بِلاَ مَواعِيدَ رَبُّ

هُو في قُدْسِه الأعَزِّ ولكِنْ ** أنَا أَلْقَى متَى وَأَيْنَ أُحِبُّ

فما بالك لو حاولت لقاء عظيم من عظماء الدنيا؟ وكم أنت مُلاقٍ من المشقة والعنت؟ وكم دونه من الحجّاب والحرّاس؟ ثم بعد ذلكَ ليس لك أن تختار لا الزمان ولا المكان، ولا الموضوع ولا غيره.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المتخلِّق بأخلاق الله إذا سلَّم على أحد لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده.
وقوله: {لَيْلاً..} [الإسراء: 1].
سبق أن قُلْنا: إن السُّرى هو السير ليلاً، فكانت هذه كافية للدلالة على وقوع الحدث ليلاً، ولكن الحق سبحانه أراد أنْ يؤكد ذلك، فقد يقول قائل: لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟
نقول: حدث الإسراء ليلاً، لتظلَّ المعجزة غَيْباً يؤمن به مَنْ يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة، فتكون المسألة إذن حِسيّة مشاهدة لا مجالَ فيها للإيمان بالغيب.
لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال: إن صاحبكم يزعم أنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فمنهم مَنْ قلّب كفَّيْه تعجُّباً، ومنهم مَنْ أنكر، ومنهم مَن ارتد.
أما الصِّدِّيق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبالَ المؤمن المصدِّق، ومن هذا الموقف سُمِّي الصديق، وقال قولته المشهورة: (إن كان قال فقد صدق).
إذن: عمدته أن يقول رسول الله، وطالما قال فهو صادق، هذه قضية مُسلَّم بها عند الصِّدِّيق رضي الله عنه.
ثم قال: (إنَّا لَنُصدقه في أبعد من هذا، نُصدِّقه في خبر السماء(الوحي)، فكيف لا نُصدّقه في هذا)؟
إذن: الحق سبحانه جعل هذا الحادث مَحكّاً للإيمان، ومُمحِّصاً ليقين الناس، حين يغربل مَنْ حول رسول الله، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع.
لذلك قال تعالى في آية أخرى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ..} [الإسراء: 60].
وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكُنْ مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً، فالمنام لا يُكذِّبه أحد ولا يختلف فيه الناس.
لكن لماذا قال عن الإسراء(رُؤْيَا) يعني المنامية، ولم يقُلْ (رؤية) يعني البصرية؟
قالوا: لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.
وورد في الإسراء أحاديث كثيرة تكلَّم فيها العلماء: أكان بالروح والجسد؟ أكان يقظة أم مناماً؟ أكان من المسجد الحرام أم من بيت أم هانيء؟ ونحن لا نختلف مع هذه الآراء، ونُوضِّح ما فيها من تقارب.
فمن حيث: أكان الإسراء بالروح فقط أم بالروح والجسد؟ فقد أوضحنا وَجْه الصواب فيه، وأنه كان بالروح والجسد جميعاً، فهذا مجال الإعجاز، ولو كان بالروح فقط ما كان عجيباً، وما كذَّبه كفار مكة.
أما مَنْ ذهب إلى أن الإسراء كان رؤيا منام، فيجب أن نلاحظ أن أول الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرؤيا الصادقة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رُؤْيَا إلا وجاءت كفلَق الصبح، فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ليست كرؤيانا، بل هي صِدْق لابد أن يتحقَّق. ومثال ذلك ما حدث، مَنْ إرادةِ اللهِ لهُ رؤْيا الفتح.
قال تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ..} [الفتح: 27].
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم صحابته هذا الخبر، فلما ردَّهم الكفار عند الحديبية، فقال الصحابة لرسول الله: ألم تُبشِّرنا بدخول المسجد الحرام؟ فقال: ولكن لم أَقُلْ هذا العام.
لذلك يسمون هذه الرُّؤى رؤى الإيناس، وهي أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم الشيء مناماً، حتى إذا ما تحقق لم يُفَاجأ به، وكان له أُنْس به. وما دام لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلَق الصبح فلابد أن هذه الرؤيا ستأتي واقعاً وحقيقة، وقد يرى هذه الرؤيا مرة أخرى على سبيل التذكرة بذلك الإيناس.
إذن: مَنْ قال: إن الإسراء كان مناماً نقول له: نعم كان رؤيا إيناس تحققتْ في الواقع، فلدينا رؤى الإيناس أولاً، ورؤى التذكير بالنعمة ثانياً، وواقع الحادث في الحقيقة ثالثاً، وبذلك نخرج من الخلاف حول: أكان الإسراء يقظة أم مناماً؟
وحتى بعد انتهاء حادث الإسراء كانت الرؤيا الصادقة نوعاً من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كلما اشتدتْ به الأهوال يُريه الله تعالى ما حدث له لِيُبيّن له حفاوة السماء والكون به صلى الله عليه وسلم؛ ليكون جَلْداً يتحمل ما يلاقي من التعنت والإيذاء.

أما من قال: إن الإسراء كان من بيت أم هانيء، فهذا أيضاً ليس محلاً للخلاف؛ لأن بيت أم هانيء كان مُلاصِقاً للمطاف من المسجد الحرام، والمطاف من المسجد.
إذن: لا داعي لإثارة الشكوك والخلافات حول هذه المعجزة؛ لأن الفعل فِعْل الحق سبحانه وتعالى، والذي يحكيه لنا هو الحق سبحانه وتعالى، فلا مجالَ للخلاف فيه.
وقوله تعالى: {مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...} [الإسراء: 1].
المسجد الحرام هو بيت الله: الكعبة المشرفة، وسُمّي حراماً؛ لأنه حُرّم فيه ما لم يحرُمْ في غيره من المساجد. وكل مكان يخصص لعبادة الله نسميه مسجداً، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر..} [التوبة: 18].
ويختلف المسجد الحرام عن غيره من المساجد، أنه بيت لله باختيار الله تعالى، وغيره من المساجد بيوت لله باختيار خَلْق الله؛ لذلك كان بيت الله باختيار الله قِبْلة لبيوت الله باختيار خَلْق الله.
وقد يُراد بالمسجد المكان الذي نسجد فيه، أو المكان الذي يصلح للصلاة، كما جاء في الحديث الشريف: (.. وجُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً).
أي: صالحة للصلاة فيها.
ولا بُدَّ أن نُفرِّق بين المسجد الذي حُيِّز وخُصِّص كمسجد مستقل، وبين أرض تصلح للصلاة فيها ومباشرة حركة الحياة، فالعامل يمكن أن يصلي في مصنعه، والفلاح يمكن أن يصلي في مزرعته، فهذه أرض تصلح للصلاة ولمباشرة حركة الحياة.
أما المسجد فللصلاة، أو ما يتعلق بها من أمور الدين كتفسير آية، أو بيان حكم، أو تلاوة قرآن.
إلخ ولا يجوز في المسجد مباشرة عمل من أعمال الدنيا.
لذلك حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالته في المسجد، قال له: (لا رَدَّها الله عليك).
وقال لمن جلس يعقد صفقة في المسجد: (لا بارك الله لك في صفقتك).
ذلك لأن المسجد خُصِّص للعبادة والطاعة، وفيه يكون لقاء العبد بربه عز وجل، فإياك أن تشغل نفسك فيه بأمور الدنيا، ويكفي ما أخذتْه منك، وما أنفقته في سبيلها من وقت.
والمسجد لا يُسمَّى مسجداً إلا إذا كان بناءً مستقلاً من الأرض إلى السماء، فأرضه مسجد، وسماؤه مسجد، لا يعلوه شيء من منافع الدنيا، كمَنْ يبني مسجداً تحت عمارة سكنية، ودَعْكَ من نيته عندما خَصَّص هذا المكان للصلاة: أكانت نيته لله خالصة؟ أم لمأرب دنيوي؟ وقد قال تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} [الجن: 18].
فمثل هذا المكان لا يُسمّى مسجداً؛ لأنه لا تنطبق عليه شروط المسجد، ويعلوه أماكن سكنية يحدث فيها ما يتنافى وقدسية المسجد، وما لا يليق بحُرْمة الصلاة، فالصلاة في مثل هذا المكان كالصلاة في أي مكان آخر من البيت.
لذلك يحرم على الطيار غير المسلم أن يُحلِّق فوق مكة؛ لأن جوَّ الحرَم حَرَمٌ.
وقوله تعالى: {إلى المسجد الأقصى..} [الإسراء: 1].
في بُعْد المسافة نقول: هذا قصيّ. أي: بعيد. وهذا أقصى أي: أبعد، فالحق تبارك وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أنه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى مسجدٌ آخر قصيّ، وقد كان فيما بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمسجد الأقصى: أي: الأبعد، وهو مسجد بيت المقدس.
وقوله سبحانه: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ..} [الإسراء: 1].
البركة: أن يُؤتي الشيءُ من ثمره فوقَ المأمول منه، وأكثر مما يُظنّ فيه، كأن تُعِد طعاماً لشخصين، فيكفي خمسة أشخاص فتقول: طعام مبارَك.
وقول الحق سبحانه: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ...} [الإسراء: 1].
دليل على المبالغة في البركة، فإنْ كان سبحانه قد بارك ما حول الأقصى، فالبركة فيه من باب أَوْلى، كأن تقول: مَنْ يعيشون حول فلان في نعمة، فمعنى ذلك أنه في نعمة أعظم.
لكن بأيّ شيء بارك الله حوله؟
لقد بارك الله حول المسجد الأقصى ببركة دنيوية، وبركة دينية:
بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض خِصْبة عليها الحدائق والبساتين التي تحوي مختلف الثمار، وهذا من عطاء الربوبية الذي يناله المؤمن والكافر.
وبركة دينية خاصة بالمؤمنين، هذه البركة الدينية تتمثل في أن الأقصى مَهْد الرسالات ومَهْبط الأنبياء، تعطَّرَتْ أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى، وفيه هبط الوحي وتنزلتْ الملائكة.
وقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ...} [الإسراء: 1].
اللام هنا للتعليل.
كأن مهمة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس أن نُرِي رسول الله الآيات، وكلمة: الآيات لا تُطلق على مطلق موجود، إنما تطلق على الموجود العجيب، كما نقول: هذا آية في الحُسْن، آية في الشجاعة، فالآية هي الشيء العجيب.
ولله عز وجل آيات كثيرة منها الظاهر الذي يراه الناس، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار..} [فصلت: 37]. {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} [الشورى: 32].
والله سبحانه يريد أن يجعل لرسوله صلى الله عليه وسلم خصوصية، وأن يُريه من آيات الغيب الذي لم يَرَهُ أحد، ليرى صلى الله عليه وسلم حفاوة السماء به، ويرى مكانته عند ربه الذي قال له: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
لأنك في سَعة من عطاء الله، فإن أهانك أهل الأرض فسوف يحتفل بك أهل السماء في الملأ الأعلى، وإنْ كنت في ضيق من الخَلْق فأنت في سَعة من الخالق.
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1].
أي: الحق سبحانه وتعالى.
السمع: إدراك يدرك الكلام. والبصر: إدراك يدرك الأفعال والمرائي، فلكل منهما ما يتعلق به.
لكن سميع وبصير لمن؟
جاء هذا في ختام آية الإسراء التي بيَّنَتْ أن الحق سبحانه جعل الإسراء تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما لاقاه من أذى المشركين وعنتهم، وكأن معركة دارت بين رسول الله والكفار حدثتْ فيها أقوال وأفعال من الجانبين.
ومن هنا يمكن أن يكون المعنىSadسَمِيعٌ) لأقوال الرسول(بَصِيرٌ) بأفعاله، حيث آذاه قومه وكذبوه وألجؤوه إلى الطائف، فكان أهلها أشدَّ قسوة من إخوانهم في مكة، فعاد مُنكَراً دامياً، وكان من دعائه: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
فالله سميع لقول نبيه صلى الله عليه وسلم. وبصير لفعله.
فقد كان صلى الله عليه وسلم في أشدِّ ظروفه حريصاً على دعوته، فقد قابل في طريق عودته من الطائف عبداً، فأعطاه عنقوداً من العنب، وأخذ يحاوره في النبوات ويقول: أنت من بلد نبي الله يونس بن متى.
أو يكون المعنى: سميع لأقوال المشركين، حينما آذوا سَمْع رسول الله وكذَّبوه وتجهَّموا له، وبصير بأفعالهم حينما آذوه ورَمَوْه بالحجارة.
الحق تبارك وتعالى تعرّض لحادث الإسراء في هذه الآية على سبيل الإجمال، فذكر بدايته من المسجد الحرام، ونهايته في المسجد الأقصى، وبين البداية والنهاية ذكر كلمة الآيات هكذا مُجْملة.
وجاء صلى الله عليه وسلم ففسَّر لنا هذا المجمل، وذكر الآيات التي رآها، فلو لم يذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من آيات الله لَقُلْنا: وأين هذه الآيات؟ فالقرآن يعطينا اللقطة الملزمة لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17-19].
إذن: كان لابد لتكتمل صورة الإسراء في نفوس المؤمنين أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال من أحاديث الإسراء.
لكن يأتي المشكِّكُون وضعَاف الإيمان يبحثون في أحاديث الإسراء عن مأخذ، فيعترضون على المرائي التي رآها رسول الله، وسأل عنها جبريل عليه السلام.
فكان اعتراضهم أن هذه الأحداث في الآخرة، فكيف رآها محمد صلى الله عليه وسلم؟
ونقول لهؤلاء: لقد قصُرَتْ أفهامكم عن إدراك قدرة الله في خَلْق الكون، فالكون لم يُخلَق هكذا، بل خُلِق بتقدير أزلي له، ولتوضيح هذه المسألة نضرب هذا المثل: هَبْ أنك أردتَ بناء بيت، فسوف تذهب إلى المهندس المختص وتطلب منه رَسْماً تفصيلياً له، ولو كنت ميسور الحال تقول له: اعمل لي(ماكيت) للبيت، فيصنع لك نموذجاً مُصغّراً للبيت الذي تريده.
فالحق سبحانه خلق هذا الكون أزلاً، فالأشياء مخلوقة عند الله(كالماكيت)، ثم يبرزها سبحانه على وَفْق ما قدّره.
وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
انظر: {أَن يَقُولَ لَهُ} كأن الشيء موجود والله تعالى يظهره فحسب، لا يخلقه بداية، بل هو مخلوق جاهز ينتظر الأمر ليظهر في عالم الواقع؛ لذلك قال أهل المعرفة: أمور يُبديها ولا يبتديها.
وإن كان الحق تبارك وتعالى قد ذكر الإسراء صراحة في هذه الآية، فقد ذكر المعراج بالالتزام في سورة النجم، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى عِندَهَا جَنَّةُ المأوى إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 13-18].
ففي الإسراء قال تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ..} [الإسراء: 1].
وفي المعراج قال: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 18].
ذلك لأن الإسراء آية أرضية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من الإلهام أنْ يُدلِّل على صِدْقه في الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ لأن قومه على علم بتاريخه، وأنه لم يسبق له أنْ رأى بيت المقدس أو سافر إليه، فقالوا له: صِفْه لنا وهذه شهادة منهم أنه لم يَرَهْ، فتحدَّوْهُ أن يصفه.
والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأتي بمثل هذه العملية، هل كان عنده استحفاظ كامل لصورة بيت المقدس، خاصة وقد ذهب إليه ليلاً؟
إذن: صورته لم تكن واضحة أمام النبي صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها، وهنا تدخلتْ قدرة الله فجلاَّه الله له، فأخذ يصفه لهم كأنه يراه الآن.
كما أن الطريق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى طريق مسلوك للعرب، فهو طريق تجارتهم إلى الشام، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن عيراً لهم في الطريق، ووصفها لهم وصفاً دقيقاً، وأنها سوف تصلهم مع شروق الشمس يوم مُعين.
وفعلاً تجمعوا في صبيحة هذا اليوم ينتظرون العير. وعند الشروق قال أحدهم: ها هي الشمس أشرقتْ. فردَّ الآخر: وها هي العير قد ظهرتْ.
إذن: استطاع صلى الله عليه وسلم أن يُدلِّل على صدق الإسراء؛ لأنه آية أرضية يمكن التدليل عليها، بما يَعْلمه الناس عن بيت المقدس، وبما يعلمونه من عِيرهم في الطريق.
أما ما حدث في المعراج، فآيات كبرى سماوية لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم التدليل عليها أمام قومه، فأراد الحق سبحانه أنْ يجعل ما يمكن الدليل عليه من آيات الأرض وسيلة لتصديق ما لا يوجد دليل عليه من آيات الصعود إلى السماء، وإلا فهل صعد أحد إلى سدرة المنتهى، فيصفها له رسول الله؟
إذن: آية الأرض أمكن أنْ يُدلّل عليها، فإذا ما قام عليها الدليل، وثبت للرسول خَرْق نواميس الكون في الزمن والمسافة، فإنْ حدّثكم عن شيء آخر فيه خَرْق للنواميس فصدِّقوه، فكأن آية الإسراء جاءت لِتُقرِّب للناس آية المعراج.
فالذي خرق له النواميس في آيات الأرض من الممكن أنْ يخرق له النواميس في آيات السماء، فالله تعالى يُقرِّب الغيبيات، التي لا تدركها العقول بالمحسّات التي تدركها.
ومن ذلك ما ضربه إليه مثلاً محسوساً لمضاعفة النفقة في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف، فأراد الحق سبحانه أنْ يُبيّن ذلك ويُقرِّبه للعقول، فقال: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
ومن لُطْف الله سبحانه بعقول خَلْقه أنْ جعل آيات الإسراء بالنصّ الملزم الصريح، لكن آيات المعراج جاءت بالالتزام في سورة النجم؛ لذلك قال العلماء: إن الذي يُكذِّب بالإسراء يكفر، أما مَنْ يكذِّب بالمعراج فهو فاسق.
لكن أهل التحقيق يذهبون إلى تكفير مَنْ يُكذِّب المعراج أيضاً؛ لأن المعراج وإنْ جاء بالالتزام فقد بيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف، والحق سبحانه يقول: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا..} [الحشر: 7].
والمتأمل في الإسراء والمعراج يجده إلى جانب أنه تسلية لرسول الله وتخفيف عنه، إلا أن لهم هدفاً آخر أبعد أثراً، وهو بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُؤيّد من الله، وله معجزات، وتُخرَق له القوانين والنواميس العامة؛ ليكون ذلك كله تكريماً ودليلاً على صدق رسالته.
فالمعجزة: أمر خارق للعادة الكونية يُجريه الله على يد رسوله؛ ليكون دليلاً على صدقه، ومن ذلك ما حدث لإبراهيم الخليل عليه السلام حيث ألقاه قومه في النار، ومن خواص النار الإحراق، فهل كان المراد نجاة إبراهيم من النار؟
لو كان القصد نجاته من النار ما كان الله مكَّنهم من الإمساك به، ولو أمسكوا فيمكن أنْ يُنزِل الله المطر فيطفيء النار.
إذن: المسألة ليست نجاة إبراهيم، المسألة إثبات خَرْق النواميس لإبراهيم عليه السلام، فشاء الله أنْ تظلَّ النار مشتعلة، وأن يُمسكوا به ويرموه في النار، وتتوفر كل الأسباب لحرقه عليه السلام.
وهنا تتدخل عناية الله لتظهر المعجزة الخارقة للقوانين، فمن خواصّ النار الإحراق، وهي خَلْق من خَلْقِ الله، يأتمر بأمره، فأمر اللهُ النارَ ألاَّ تحرق، سلبها هذه الخاصية، فقال تعالى: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
وربما يجد المشكِّكون في الإسراء والمعراج ما يُقرّب هذه المعجزة لأفهامهم بما نشاهده الآن من تقدُّم علمي يُقرِّب لنا المسافات، فقد تمكَّن الإنسان بسلطان العلم أنْ يغزوَ الفضاء، ويصعد إلى كواكب أخرى في أزمنة قياسية، فإذا كان في مقدور البشر الهبوط على سطح القمر، أتستبعدون الإسراء والمعراج، وهو فِعْل لله سبحانه؟!
وكذلك من الأمور التي وقفتْ أمام المعترضين على الإسراء والمعراج حادثة شَقِّ الصدر التي حكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتأمل فيه يجده عملاً طبيعياً لإعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مُقبِل عليه من أجواء ومواقف جديدة تختلف في طبيعتها عن الطبيعة البشرية.
كيف ونحن نفعل مثل هذا الإعداد حينما نسافر من بلد إلى آخر، فيقولون لك: البس ملابس كذا. وخذ حقنة كذا لتساير طبيعة هذا البلد، وتتأقلم معه، فما بالك ومحمد صلى الله عليه وسلم سيلتقي بالملائكة وبجبريل وهم ذوو طبيعة غير طبيعة البشر، وسيلتقي بإخوانه من الأنبياء، وهم في حال الموت، وسيكون قاب قوسيْن أو أدنى من ربه عز وجل؟
إذن: لا غرابة في أنْ يحدث له تغيير ما في تكوينه صلى الله عليه وسلم ليستطيع مباشرة هذه المواقف.
وإذا استقرأنا القرآن الكريم فسوف نجد فيه ما يدلُّ على صدق رسول الله فيما أخبر به من لقائه بالأنبياء في هذه الرحلة، قال تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ..} [الزخرف: 45].
والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمره ربّه أمراً نفّذه، فكيف السبيل إلى تنفيذ هذا الأمر: واسأل مَن سبقك من الرسل؟
لا سبيل إلى تنفيذه إلا في لقاء مباشر ومواجهة، فإذا حدَّثنا بذلك رسول الله في رحلة الإسراء والمعراج نقول له: صدقت، ولا يتسلل الشكّ إلا إلى قلوب ضعاف الإيمان واليقين.
فالفكرة في هذه القضية الإسراء والمعراج دائرة بين يقين المؤمن بصدق رسول الله، وبين تحكيم العقل، وهل استطاع عقلك أنْ يفهم كل قضايا الكون من حولك؟
فما أكثر الأمور التي وقف فيها العقل ولم يفهم كُنْهَها، ومع مرور الزمن وتقدُّم العلوم رآها تتكشّف له تدريجياً، فما شاء الله أنْ يُظهره لنا من قضايا الكون يسَّر لنا أسبابه باكتشاف أو اختراع، وربما بالمصادفة.
وما العقل إلا وسيلة إدراك، كالعين والأذن، وله قوانين محددة لا يستطيع أنْ يتعداها، وإياك أنْ تظنَّ أن عقلك يستطيع إدراك كل شيء، بل هو محكوم بقانون.
ولتوضيح ذلك، نأخذ مثلاً العين، وهي وسيلة إدراك يحكمها قانون الرؤية، فإذا رأيت شخصاً مثلاً تراه واضح الملامح، فإذا ما ابتعد عنك تراه يصغُر تدريجياً حتى يختفي عن نظرك، كذلك السمع تستطيع بأذنك أنْ تسمعَ صوتاً، فإذا ما ابتعد عنك قَلَّ سمعك له، حتى يتوقف إدراك الأذن فلا تسمع شيئاً.
كذلك العقل كوسيلة إدراك له قانون، وليس الإدراك فيه مطلقاً.
ومن هنا لما أراد العلماء التغلُّب على قانون العيْن وقانون الأذن حينما تضعف هذه الحاسة وتعجز عن أداء وظيفتها صنعوا للعين النظارة والميكروسكوب والمجهر، وهذه وسائل حديثة تُمكِّن العين من رؤية ما لا تستطيع رؤيته. وكذلك صنعوا سماعة الأذن لتساعدها على السمع إذا ضعفت عن أداء وظيفتها.
إذن: فكل وسيلة إدراك لها قانونها، وكذلك العقل، وإياك أنْ تظنَّ أن عقلك يستطيع أن يدرس كل شيء، ولكن إذا حُدِّثْتَ بشيء فعقلك ينظر فيه، فإذا وثقته صادقاً فقد انتهت المسألة، وخذ ما حدثت به على أنه صدق.
وهذا ما حدث مع الصِّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه حينما حدثوه عن صاحبه صلى الله عليه وسلم، وأنه أُسرِي به من مكة إلى بيت المقدس، فما كان منه إلا أن قال: (إن كان قال فقد صدق).
فالحجة عنده إذن قول الرسول، وما دام الرسول قد قال ذلك فهو صادق، ولا مجال لعمل العقل في هذه القضية، ثم قال (كيف لا أُصدقه في هذا الخبر، وأنا أصدقه في أكثر من هذا، أصدقه في خبر الوحي يأتيه من السماء).
فآية الإسراء إذن كانت آية أرضية، يمكن أنْ يُقام عليها الدليل، ويمكن أن يفهم الناس عنها أن القانون قد خُرِق لمحمد في الإسراء، فإذا ما أتى المعراج وخرق له القانون فيما لا يعلم الناس كان أَدْعى لتصديقه.
والمتأمل في هذه السورة يجدها تسمى سورة الإسراء، وتسمى سورة بني إسرائيل، وليس فيها عن الإسراء إلا الآية الأولى فقط، وأغلبها يتحدث عن بني إسرائيل، فما الحكمة من ذِكْر بني إسرائيل بعد الإسراء؟
سبق أن قلنا: إن الحكمة من الكلام عن الإسراء بعد آخر النحل أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان في ضيق مما يمكرون، فأراد الحق سبحانه أنْ يُخفِّف عنه ويُسلِّيه، فكان حادث الإسراء، ولما أَلِفَ بنو إسرائيل أن الرسول يُبعَثُ إلى قومه فحسب، كما رأَوا موسى عليه السلام.
فعندما يأتي محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا رسول للناس كافّة سيعترض عليه هؤلاء وسيقولون: إنْ كنتَ رسولاً فعلاً وسلَّمنا بذلك، فأنت رسول للعرب دون غيرهم، ولا دَخْل لك ببني إسرائيل، فَلَنا رسالتنا وبيت المقدس عَلَم لنا.
لذلك أراد الحق سبحانه أن يلفت إسرائيل إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جعل بيت المقدس قبلةً للمسلمين في بداية الأمر، ثم أسرى برسوله صلى الله عليه وسلم إليه: ليدلل بذلك على أن بيت المقدس قد دخل في مقدسات الإسلام، وأصبح منذ هذا الحدث في حَوْزة المسلمين.
ثم يبدأ الحديث عن موسى عليه السلام وعن بني إسرائيل، فيقول تعالى: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب...}.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://el-quran.ahlamontada.com
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 4240
تاريخ التسجيل : 20/01/2018

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي      تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Emptyالجمعة مارس 02, 2018 5:44 am


.تفسير الآية رقم (2):

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)}
قوله: {وَآتَيْنَآ} أي: أوحينا إليه معانيه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ..} [الشورى: 51].
فليس في هذا الأمر مباشرة.
و(الكتاب) هو التوراة، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل، وإنْ أُطلِق دون أن يقترنَ بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم.
والوَحْي قد يكون بمعاني الأشياء، ثم يُعبّر عنها الرسول بألفاظه، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم.
ومثال ذلك: الحديث النبوي الشريف، فالمعنى فيه من الحق سبحانه، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل.
فإن قال قائل: ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط؟
نقول: لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أنْ يأتيَ بمثله، فلا دَخْلَ لأحد فيه، ولابد أنْ يظلَّ لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أُوحِيَ إليه لَفْظُ ومعنى القرآن الكريم، وأُوحِي إليه معنى الحديث النبوي الشريف.
والحق سبحانه يقول: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ..} [الإسراء: 2].
فهذا الكتاب لم ينزل لموسى وحده، بل لِيُبلِّغه لبني إسرائيل، وليرسمَ لهم طريق الهدى الله سبحانه، وقال تعالى في آية أخرى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23].
والهُدَى: هو الطريق الموصّل للغاية من أقصر وجه، وبأقلّ تكلفة، وهو الطريق المستقيم، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين.
ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب، وخلاصة هذا الهُدى لبني إسرائيل في قوله تعالى: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء: 2].
ففي هذه العبارة خلاصة الهُدى، وتركيز المنهج وجِمَاعه.
والوكيل: هو الذي يتولَّى أمرك، وأنت لا تُولِّي أحداً أمرك إلا إذا كنتَ عاجزاً عن القيام به، وكان مَنْ تُوكِّله أحكمَ منك وأقوى، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم، فالغني يصير فقيراً، والقوي يصير ضعيفاً، والصحيح يصير سقيماً.
وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تِلْو الآخر، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لِتولِّي أمرك والقيام بشأنك، فربما وَكَّلْتَ واحداً منهم ففاجأك خبر موته.
إذن: إذا كنتَ لبيباً فوكِّل مَنْ لا تنتابه الأغيار، ولا يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يُعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور، يقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
وما دام الأمر كذلك، فإياك أنْ تتخذَ من دون الله وكيلاً، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم، بل يناولونك ويُبلِّغونك عن الله سبحانه.
ولذلك الحق سبحانه يقول: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ..} [الإسراء: 86].
ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً، فمن أين تأتي بالمنهج إذن؟
وقد تحدث العلماء طويلاً في(أن) في قوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء: 2].
فمنهم مَنْ قال: إنها ناهية. ومنهم من قال: نافية، وأحسن ما يُقال فيها: إنها مُفسّرة لما قبلها من قوله تعالى: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى..} [الإسراء: 2].
ففسرت الكتاب والهدى ولخَّصتْه، كما في قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120].
فقوله: {قَالَ ياآدم} تُفسّر لنا مضمون وسوسة الشيطان.
ومثله قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ..} [القصص: 7].
(فأنْ) هنا مُفسِّرة لما قبلها. وكأن المعنى: وأوحينا إليه ألاَّ تتخذوا من دوني وكيلاً.
أو نقول: إن فيها معنى المصدرية، وأنْ المصدرية قد تُجرّ بحرف جر كما نقول: عجبت أنْ تنجحَ، أي: من أنْ تنجح، ويكون معنى الآية هنا: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل لأنْ لا تتخذوا من دوني وكيلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا..}.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://el-quran.ahlamontada.com
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 4240
تاريخ التسجيل : 20/01/2018

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي      تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Emptyالجمعة مارس 02, 2018 5:44 am


.تفسير الآية رقم (3):

{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}
(ذرية) منصوبة هنا على الاختصاص لِقصْد المدح، فالمعنى: أخصّكم أنتم يا ذرية نوح، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات؟
ذلك لأننا نجَّيْنَا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق، وحافظنا على حياتهم، وأنتم ذريتهم، فلابد لكم أنْ تذكروا هذه النعمة لله تعالى، أن أبقاكم الآن من بقاء آبائكم.
فكأن الحق سبحانه يمتنّ عليهم بأنْ نجَّى آباءهم مع نوح، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جَرَّبه آباؤهم، ووجدوا أن مَنْ يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله.
ويقول تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3].
أي: أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لأنه كان عبداً شكوراً، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا، ولن نتركهم يتخبّطون في متاهات الحياة، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم، ويُجنّبهم الزَّلل والانحراف.
ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء، فإذا ما توفّر للإنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله، فإذا توفّر له قوت عامه قال: أعمل لأولادي، فترى خير أولاده أكثر من خَيْره، وتراه ينشغل بهم، ويُؤثِرهم على نفسه، ويترقّى في طلب الخير لهم، ويودُّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها.
ومع ذلك، فالإنسان عُرْضَة للأغيار، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الأولاد، فيقول تعالى: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
والحق تبارك وتعالى حينما يُعلّمنا أن تقوى الله تتعدَّى بركتها إلى أولادك من بعدك، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام التي حكاها لنا القرآن الكريم.
والشاهد فيها أنهما حينما مرّا على قرية، واستطعما أهلها فأبَوْا أنْ يُضيّفوهما، وسؤال الطعام يدل على صِدْق الحاجة، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكَنْزِه، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلا شكّ أنه صادق في سؤاله، فهذا دليل على أنها قرية لِئَام لا يقومون بواجب الضيافة، ولا يُقدِّرون حاجة السائل.
ومن هنا تعجَّبَ موسى عليه السلام من مبادرة الخِضْر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أنْ يأخذ أَجْره من هؤلاء اللئام: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77].
وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر، ويُظهِر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام، فيقول: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ..} [الكهف: 82].
فالجدار مِلْك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام، ولأن أباهما كان صالحاً سخّر الله لهما مَنْ يخدمهما، ويحافظ على مالهما.
إذن: فِعلّة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً، فأكرمهم الله من أجله، وجعلهما في حيازته وحفظه.
وهنا قد يسأل سائل: ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما؟
والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين، فيكونان قادريْنِ على حمايته والدفاع عنه.
والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21].
فكرامةً للآباء نلحق بهم الأبناء، حتى وإنْ قَصَّروا في العمل عن آبائهم، فنزيد في أجر الأبناء، ولا ننقص من أجر الآباء.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3].
وشكور صيغة مبالغة في الشكر، فلم يقل شاكر؛ لأن الشاكر الذي يشكر مرة واحدة، أما الشكور فهو الدائب على الشكر المداوم عليه، وقالوا عن نوح عليه السلام: إنه كان لا يتناول شيئاً من مُقوّمات حياته إلا شكر الله عليها. ولا تنعَّم بنعمة من ترف الحياة إلا حمد الله عليها، فإذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني من غير حول مني ولا قوة، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني من غير حول مني ولا قوة، وهكذا في جميع أمره.
ويقول بعض العارفين: ما أكثر ما غفل الإنسان عن شكر الله على نعمه.
ونرى كثيراً من الناس قصارى جَهْدهم أن يقولوا: بسم الله في أول الطعام والحمد لله في آخره، ثم هم غافلون عن نعم كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، تستوجب الحمد والشكر.
لذلك حينما يعقل الإنسان ويفقه نِعَم الله عليه، ويعلم أن الحمد قَيْد للنعمة، تجده يعمل ما نُسميّه حَمْد القضاء مثل الصلاة القضاء أي: حمد الله على نعم فاتت لم يحمده عليها، فيقول: الحمد لله على كل نعمة أنعمتَها عليَّ يا ربّ، ونسيت أنْ أحمدَك عليها، ويجعل هذا الدعاء دَأَبه وديدنه.
وقد يتعدى حمدَ الله لنفسه، فيحمد الله عن الناس الذين أنعم الله عليهم ولم يحمدوه، فيقول: الحمد لله عن كل ذي نعمة أنعمتَ عليه، ولم يحمدك عليها.
ولذلك يقولون: إن النعمة التي تحمد الله عليها لا تُسأل عنها يوم القيامة؛ لأنك أدَّيْتَ حقها من حَمْد الله والثناء عليه.
والحمد والشكر وإنْ كان شكراً للمنعم سبحانه وثناء عليه، فهو أيضاً تجارة رابحة للشاكر؛ لأن الحق سبحانه يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
فمَنْ أراد الخير لنفسه وأحب أن نواصل له النعم فليداوم على حمدنا وشكرنا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ..}.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://el-quran.ahlamontada.com
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 4240
تاريخ التسجيل : 20/01/2018

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي      تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Emptyالجمعة مارس 02, 2018 5:44 am


.تفسير الآية رقم (4):

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ..} [الإسراء: 4].
أي: حكمنا حُكْماً لا رجعةَ فيه، وأعلنَّا به المحكوم عليه، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى.
والقضاء يعني الفَصْل في نزاع بين متخاصمين، وهذا الفَصْل لابد له من قاضٍ مُؤهَّل، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به، ويستطيع الترجيح بين الأدلة.
إذن: لابد أن يكون القاضي مُؤهّلاً، ولو عُرْف المتنازعين، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميِّين لا يعرفون عن القانون شيئاً، ولكنهم واثقون من شخص ما، ويعرفون عنه قَوْل الحق والعدل في حكومته، فيرتضونه قاضياً ويُحكّمونه فيما بينهم.
ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب، بل لابد له من بينة على المدعي أن يُقدّمها أو اليمين على مَنْ أنكر، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه، ثم هو في أثناء ذلك عُرْضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة.
وقد يستطيع الظالم أنْ يُعمِّي عليه الأمر، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي، فيحوّل الحكم لصالحه، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا.
فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟
إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بيّنة ولا شهود، ولا يقدر أحد أنْ يُعمِّي عليه أو يخدعه، وهو سبحانه صاحب كل السلطات، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه.
وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهل القضاة أفضل من رسول الله؟!
ففي الحديث الشريف: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته فأقضي له، فمَنْ قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار).
فردَّ صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له، ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما يستحق، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر، ولكن إنْ عمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمَنْ يستفتي شخصاً فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب: (استفتِ قلبك، وإنْ أفتوْكَ، وإنْ أفتوْكَ، وإنْ أفتوْكَ).
قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مُميّزاً بقلبه بين الحلال والحرام، وعليه أن يُراجع نفسه ويتدبر أمره.
وقوله: {فِي الكتاب..} [الإسراء: 4].
أي: في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي: حكم عليهم حُكْماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلّغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أَيُنفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأنْ يُطيعوا أمره.
وقوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ..} [الإسراء: 4].
جاءتْ هذه العبارة هكذا مُؤكّدة باللام، وهذا يعني أن في الآية قَسَماً دَلَّ عليه جوابه، فكأن الحق سبحانه يقول: ونفسي لتفسدن في الأرض، لأن القسَم لا يكون إلا بالله.
أو نقول: إن المعنى: ما دُمْنا قد قضينا وحكمنا حُكْماً مُؤكّداً، لا يستطيع أحد الفِكَاك منه، ففي هذا معنى القسَم، وتكون هذه العبارة جواباً ل (قضينا)؛ لأن القسَم يجيء للتأكيد، والتأكيد حاصل في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ...} [الإسراء: 4].
فما هو الإفساد؟
الإفساد: أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتُخرجه عن صلاحه، فكُلُّ شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية، فإذا تركتَه ليؤديَ غايته فقد أبقيته على صلاحه، وإذا أخللْتَ به يفقد صلاحه ومهمته، والغاية التي خلقه الله من أجلها.
والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مُقوّمات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء.. الخ وليس مقومات حياتنا فحسب، بل وأعدَّ لنا في كَوْنه ما يُمكِّن الإنسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصالح صلاحاً، فعلى الأقل إنْ لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبْقِ الصالح على صلاحه.
فمثلاً، عندك بئر محفورة تخرج لك الماء، فإما أنْ تحتفِظَ بها على حالها فلا تطمسها، وإما أنْ تزيدَ في صلاحها بأنْ تبنيَ حولها ما يحميها من زحف الرمال، أو تجعل فيها آلة رفع للماء تضخُّه في مواسير لتسهِّل على الناس استعمال، وغير ذلك من أَوْجُه الصلاح.
ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
أي: أنشأكم من الأرض، وجعل لكم فيها مُقوّمات حياتكم، فإنْ أحببتَ أنْ تُثري حياتك فأعمِلْ عقلك المخلوق لله ليفكر، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون، فأنت لا تأتي بشيء من عندك، فقط تُعمِل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يُثرِي حياتك، ويُوفِّر لك الرفاهية والترقي.
فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملُوا عقولهم، وزادوا الصالح صلاحاً، وكم فيها من مَيْزات وفَّرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان، فأخذوا هذه الفكرة، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية.
وكما يكون الإفساد في الماديات كمَنْ أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوِّثات، كذلك يكون في المعنويات، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه، فكوْنُك لا تنفذ هذا المنهج، أو تكتمه، أو تُحرِّف فيه، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى.
ويقول تعالى لبني إسرائيل: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ..} [الإسراء: 4].
وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟
والله إنْ كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هَيِّن، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً، فلماذا قال تعالى: مرتين؟
تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام.
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدلّ ذلك على أن الإسلام تعدّى إلى مناطق مُقدّساتهم، فأصبح بيت المقدس قِبْلة للمسلمين، ثم أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبذلك دخل في حَوْزة الإسلام؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة، وجاء للناس كافة.
إذن: كان من الأوْلى أن يُفسِّروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام، ولا دَخْلَ للإسلام في إفسادهم السابق؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 4].
فإنْ كان الفساد مُطْلقاً. أي: قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدَّد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى عليه السلام: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
هل هناك فساد أكثر من أنْ قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مُثُلاً تكوينية وأُسْوة سلوكية، وحرّفوا كتاب الله؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرَّفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة، فمن التوراة ما نسوه، كما قال تعالى: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ..} [المائدة: 13].
والذي لم ينسَوْهُ لم يتركوه على حاله، بل كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله، بل حرَّفوه، كما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ..} [المائدة: 13].
ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف، بل تعدَّى إلى أن أَتَوا بكلام من عند أنفسهم، وقالوا هو من عند الله، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً..} [البقرة: 79].
فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد؟
ومن العلماء مَنْ يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ..} [البقرة: 246].
فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضَوْه وحكموا به، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصَّلوا منه ولم يقاتلوا.
ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قويَتْ دولتهم، واتسعتْ رقعتها من الشمال إلى الجنوب، فأغار عليهم بختنصَّر وهزمهم، وفعل بهم ما فعل.
وهذه التفسيرات على أن الفساديْن سابقان للإسلام، والأَوْلى أن نقول: إنهما بعد الإسلام، وسوف نجد في هذا رَبْطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء.
كيف ذلك؟
قالوا: لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم: لقد أظلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومَنْ عنده علم الكتاب، فمَنْ عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك، وأنك صادق، ويعرف علامتك، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول أحدهم: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لِمَا قرأه في كتبهم، وما يعلمه من أوصافه، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
إذن: كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا، وكانوا مستشرفين لمجيئه، وعندهم مُقدِّمات لبعثته صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ..} [البقرة: 89].
فلما كفروا به، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة؟
في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها، ووفّى لهم رسول الله ما وفّوا، فلما غدروا هم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم، وقتل منهم مَنْ قَتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2].
وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قَيْنقاع، وبني قريظة، الذين خانوا العهد مع رسول الله، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ونصُّ الآية القادمة يُؤيِّد ما نذهب إليه من أن الإفسادتين كانتا بعد الإسلام.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://el-quran.ahlamontada.com
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 4240
تاريخ التسجيل : 20/01/2018

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي      تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Emptyالجمعة مارس 02, 2018 5:45 am



.تفسير الآية رقم (5):

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}
معلوم أن(إذَا) ظرف لما يستقبل من الزمان، كما تقول: إذا جاء فلان أكرمته، فهذا دليل على أن أولى الإفسادتين لم تحدث بعد، فلا يستقيم القول بأن الفساد الأول جاء في قصة طالوت وجالوت، وأن الإفساد الثاني جاء في قصة بختنصر.
وقوله: {وَعْدُ}. والوعد كذلك لا يكون بشيء مضى، وإنما بشيء مستقبل. و{أُولاهُمَا} أي: الإفساد الأول.
وقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ...} [الإسراء: 5].
وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام؛ لأن كلمة {عِبَاداً} لا تطلق إلا على المؤمنين، أما جالوت الذي قتله طالوت، وبختنصر فهما كافران.
وقد تحدّث العلماء في قوله تعالى: {عِبَاداً لَّنَآ..} [الإسراء: 5] فمنهم من رأى أن العباد والعبيد سواء، وأن قوله(عِبَاداً) تُقَال للمؤمن وللكافر، وأتوا بالأدلة التي تؤيد رأيهم حَسْب زعمهم.
ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 116-118].
والشاهر في قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ..} [المائدة: 118].
فأطلق كلمة (عبادي) على الكافرين، وعلى هذا القول لا مانع يكون جالوت وبختنصر، وهما كافران قد سُلِّطا على بني إسرائيل.
ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفاً من مواقف يوم القيامة، يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من دون الله: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ..} [الفرقان: 17].
فأطلق كلمة(عباد) على الكافرين أيضاً.
إذن: قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ...} [الإسراء: 5].
ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين، فقد يكونون من الكفار، وهنا نستطيع أن نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم، ويُسلِّط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين، فإذا أراد سبحانه أن ينتقم من الظالم سلّط عليه مَنْ هو أكثر منه ظلماً، وأشدّ منه بطشاً، كما قال سبحانه: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].
وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة عباد تُطلَق على المؤمنين وعلى الكافرين، فسوف نأتي بما يدل على أنها لا تُطلَق إلا على المؤمنين.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 63-67].
إلى آخر ما ذكرت الآيات من صفا المؤمنين الصادقين، فأطلق عليهم (عباد الرحمن).
دليل آخر في قول الحق سبحانه في نقاشه لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ..} [الحجر: 42].
والمراد هنا المؤمنون.. وقد قال إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83].
إذن: هنا إشكال، حيث أتى كُلٌ بأدلّته وما يُؤيّد قوله، وللخروج من هذا الإشكال نقول: كلمة (عباد) و(عبيد) كلاهما جمع ومفردهما واحد(عبد). فما الفرق بينهما؟
لو نظرتَ إلى الكون كله مؤمنه وكافره لوجدتهم جميعاً لهم اختيارات في أشياء، ومقهورين في أشياء أخرى، فهم جميعاً عبيد بهذا المعنى يستوي في القهر المؤمن والكافر، إذن: كل الخَلْق عبيد فيما لا اختيارَ لهم فيه.
ثم بعد ذلك نستطيع أن نُقسّمهم إلى قْسمين: عبيد يظلون عبيداً لا يدخلون في مظلة العباد، وعبيد تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لأمر الله فيدخلون في مظلة عباد الله. كيف ذلك؟
لقد جعل الله تعالى لك في أفعالك منطقة اختيار، فجعلك قادراً على الفِعْل ومقابله، وخلقك صالحاً للإيمان وصالحاً للكفر، لكنه سبحانه وتعالى يأمرك بالإيمان تكليفاً.
ففي منطقة الاختيار هذه يتمايز العبيد والعباد، فالمؤمنون بالله يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار ربهم، ويتنازلون عن مُرادهم إلى مُراد ربهم في المباحات، فتراهم يُنفِّذون ما أمرهم الله به، ويجعلون الاختيار كالقهر. ولسان حالهم يقول لربهم: سمعاً وطاعة.
وهؤلاء هم العباد الذين سَلّموا جميع أمرهم لله في منطقة الاختيار، فليس لهم إرادة أمام إرادة الله عز وجل.
إذن: كلمة عباد تُطلق على مَنْ تنازل عن منطقة الاختيار، وجعل نفسه مقهوراً لله حتى في المباحات.
أما الكفار الذين اختاروا مُرادهم وتركوا مُراد الله، واستعملوا اختيارهم، ونسوا اختيار ربهم، حيث خَيَّرَهم: تُؤمن أو تكفر قال: أكفر، تشرب الخمر أو لا تشرب قال: أشرب، تسرق أو لا تسرق، قال: أسرق. وهؤلاء هم العبيد، ولا يقال لهم (عباد) أبداً؛ لأنهم لا يستحقون شرف هذه الكلمة.
ولكي نستكمل حَلَّ ما أشكل في هذه المسألة لابد لنا أن نعلم أن منطقة الاختيار هذه لا تكون إلا في الدنيا في دار التكليف؛ لأنها محل الاختيار، وفيها نستطيع أن نُمَيِّز بين العباد الذين انصاعوا لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه، وبين العبيد الذين تمرَّدوا واختاروا غير مراد الله عز وجل في الاختياريات، أما في القهريات فلا يستطيعون الخروج عنها.
فإذا جاءت الآخرة فلا محلَّ للاختيار والتكليف، فالجميع مقهور لله تعالى، ولا مجالَ فيها للتقسيم السابق، بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته.
إذن: نستطيع أن نقول: إن الكل عباد في الآخرة، وليس الكل عباداً في الدنيا. وعلى هذا نستطيع فهم معنى(عباد) في الآيتين: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ..} [المائدة: 118].
وقوله: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ..} [الفرقان: 17].
فسمّاهم الحق سبحانه عباداً؛ لأنه لم يَعُدْ لهم اختيار يتمردون فيه، فاستوَوْا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عز وجل.
إذن: فقول الحق سبحانه: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ..} [الإسراء: 5].
المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظِلِّ الإسلام، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعباد هم رسول الله والذين آمنوا معه عندما جَاسُوا خلال ديارهم، وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم مَنْ قتلوه، وسَبَوْا مَنْ سَبَوْه.
وقوله: {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ..} [الإسراء: 5].
أي: قوة ومنَعة، وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة، بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون بها أهل الباطل، وليس حال ضعفهم في مكة.
وقوله سبحانه: {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار..} [الإسراء: 5].
جاسُوا من جاسَ أي: بحث واستقصى المكان، وطلب مَنْ فيه، وهذا المعنى هو الذي يُسمّيه رجال الأمن (تمشيط المكان).
وهو اصطلاح يعني دِقّة البحث عن المجرمين في هذا المكان، وفيه تشبيه لتمشيط الشعر، حيث يتخلل المشط جميع الشعر، وفي هذا ما يدل على دِقّة البحث، فقد يتخلل المشط تخلُّلاً سطحياً، وقد يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها.
إذن: جاسُوا أي: تتبعوهم تتبعاً بحيث لا يخفي عليهم أحد منهم، وهذا ما حدث مع يهود المدينة: بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، ويهود خيبر.
ونلاحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله: {بَعَثْنَا..} [الإسراء: 5].
والبعث يدل على الخير والرحمة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال اعتداء، بل في حالة دفاع عن الإسلام أمام مَنْ خانوا العهد ونقضوا الميثاق.
وكلمة: {عَلَيْكُمْ} تفيد العلو والسيطرة.
وقوله: {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} [الإسراء: 5].
أي: وَعْد صدق لابد أن يتحقق؛ لأنه وعد من قادر على الإنفاذ، ولا توجد قوة تحول بينه وبين إنفاذ ما وعد به، وإياك أن تظن أنه كأي وَعْد يمكن أنْ يَفِي به صاحبه أو لا يفي به؛ لأن الإنسان إذا وعد وَعْداً: سألقاك غداً مثلاً.
فهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة الإنفاذ، لكن قد يطرأ عليك من العوارض ما يحول بينك وبين إنفاذ ما وعدت به، إنما إذا كان الوعد ممَّنْ يقدر على الإنفاذ، ولا تجري عليه مِثْل هذه العوارض، فوعْدُه مُتَحقِّق النفاذ.
فإذا قال قائل: الوعد لا تُقال إلا في الخير، فكيف سمَىَّ القرآن هذه الأحداث: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ..} [الإسراء: 5].
قالوا: الوعيد يُطلَق على الشر، والوعد يُطلَق على الخير وعلى الشر، ذلك لأن الشيء قد يكون شراً في ظاهره، وهو خير في باطنه، وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده، إذا أراد الحق سبحانه أنْ يُؤدِّبَ هؤلاء الذين انحرفوا عن منهجه، فقد نرى أن هذا شر في ظاهره، لكنه في الحقيقة خير بالنسبة لهم، إنْ حاولوا هم الاستفادة منه.
ونضرب لذلك مثلاً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره، فيقسو عليه حِرْصاً على ما يُصلحه، وصدق الشاعر حين قال:
فَقَسَا لِيزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِماً ** فَلْيَقْسُ أَحْيَاناً على مَنْ يَرْحَمُ

ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ...}.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://el-quran.ahlamontada.com
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 4240
تاريخ التسجيل : 20/01/2018

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي      تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Emptyالجمعة مارس 02, 2018 5:45 am


.تفسير الآية رقم (6):

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}
الخطاب في هذه الآية مُوجَّه لبني إسرائيل، والآية تمثل نقطة تحوُّل وانقلاب للأوضاع، فبعد أن تحدثنا عنه من غلبة المسلمين، وأن الله سلّطهم لتأديب بني إسرائيل، نرى هنا أن هذا الوضع لم يستمر؛ لأن المسلمين تخلَّوْا عن منهج الله الذي ارتفعوا به، وتَنصَّلوا من كَوْنهم عباداً لله، فدارت عليهم الدائرة، وتسلّط عليهم اليهود، وتبادلوا الدور معهم؛ لأن اليهود أفاقوا لأنفسهم بعد أن أدبهم رسول الله والمسلمون في المدينة، فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات.
ولا بُدّ أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكُّب للطريق المستقيم، فانحلَّتْ الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين، وانقسموا دُوَلاً، لكل منها جغرافياً، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام، فانحلّتْ عنهم صِفَة عباد الله.
فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عباداً لله بحق تراجعت كِفتهم وتخلَّوْا عن منهج ربهم، وتحاكموا إلى قوانين وضعية، فسلَّط عليهم عدوهم ليؤدّبهم، فأصبحتْ الغلبة لليهود؛ لذلك يقول تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ..} [الإسراء: 6].
و{ثُمَّ} حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي، على خلاف الفاء مثلاً التي تفيد الترتيب مع التعقيب، ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 21-22].
فلم يَقُل الحق سبحانه: فرددنا، بل {ثُمَّ رَدَدْنَا} ذلك لأن بين الكَرَّة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله، وبين هذه الكَرَّة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً.
فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وَعْد بلفور، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين، وكانت الكَرَّة لهم علينا في عام 1967، فناسب العطف ب (ثم) التي تفيد التراخي.
والحق سبحانه يقول: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ..} [الإسراء: 6].
أي: جعلنا لبني إسرائيل الغَلَبَة والقوة والنصر على المسلمين وسلّطناهم عليهم؛ لأنهم تخلوْا عن منهج ربهم، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتْهم عباداً لله.
و(الكَرَّة) أي: الغلبة من الكَرِّ والفَرِّ الذي يقوم به الجندي في القتال، حيث يُقِدم مرة، ويتراجع أخرى.
وقوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء: 6].
وفعلاً أمدّهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله، وأمدّهم بالبنين الذين يُعلِّمونهم ويُثقّفونهم على أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كَرَّة على المسلمين، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين، ولابد لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين، وهذا معنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء: 6].
فالنفير مَنْ يستنفره الإنسان لينصره، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين.
ومازالت الكَرَّة لهم علينا، وسوف تظل إلى أنْ نعود كما كُنَّا، عباداً لله مُسْتقيمين على منهجه، مُحكِّمين لكتابه، وهذا وَعْد سيتحقّق إنْ شاء الله، كما ذكرتْ الآية التالية: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا...}.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://el-quran.ahlamontada.com
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 4240
تاريخ التسجيل : 20/01/2018

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي      تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Emptyالجمعة مارس 02, 2018 5:46 am


.تفسير الآية رقم (7):

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
ومازال الخطاب مُوجّهاً إلى بني إسرائيل، هاكم سُنّة من سنن الله الكونية التي يستوي أمامها المؤمن والكافر، وهي أن مَنْ أحسن فله إحسانه، ومَنْ أساء فعليه إساءته.
فها هم اليهود لهم الغَلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج، أو على الأقل بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله؛ لأن هذه سُنّة كونية، مَنِ استحق الغلبة فهي له؛ لأن الحق سبحانه وتعالى مُنزّه عن الظلم، حتى مع أعداء دينه ومنهجه.
والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله.
وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ..} [الإسراء: 7].
فيه إشارة إلى أنهم في شَكٍّ أنْ يُحسِنوا، وكأن أحدهم يقول للآخر: دَعْكَ من قضية الإحسان هذه.
فإذا كانت الكَرَّة الآن لليهود، فهل ستظل لهم على طول الطريق؟ لا.. لن تظل لهم الغَلبة، ولن تدوم لهم الكرّة على المسلمين، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة..} [الإسراء: 7].
أي: إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم، وقد سبق أنْ قال الحق سبحانه عنهم: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ..} [الإسراء: 4].
وبينّا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.
وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكون لنا يقظة وصَحْوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم، وعندها ستكون لنا الغَلبة والقوة، وستعود لنا الكَرَّة على اليهود.
وقوله تعالى: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ..} [الإسراء: 7].
أي: نُلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم؛ لأن الوجه هو السِّمة المعبرة عن نوازع النفس الإنسانية، وعليه تبدو الانفعالات والمشاعر، وهو أشرف ما في المرء، وإساءته أبلغ أنواع الإساءة.
وقوله تعالى: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..} [الإسراء: 7] أي: أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى وسينقذونه من أيدي اليهود.
{كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..} [الإسراء: 7].
المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخولَ المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين.
فدخوله الأول لم يكُنْ إساءةً لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونُطهِّره من رِجْسهم.
ونلحظ كذلك في قوله تعالى: {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..} [الإسراء: 7] أن القرآن لم يقُلْ ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج.
إذن: فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لِنُبوءَة القرآن، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يلفتنا: إنْ أردتُمْ أنْ تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه.
وقوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة..} [الإسراء: 7].
كلمة الآخرة تدلُّ على أنها المرة التي لن تتكرر، ولكن يكون لليهود غَلَبة بعدها.
وقوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً..} [الإسراء: 7].
يتبروا: أي: يُهلكوا ويُدمِّروا، ويُخرِّبوا ما أقامه اليهود وما بنَوْهُ وشيَّدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم.
لكن نلاحظ أن القرآن لم يقُلْ: ما علوتُم، إنما قال {مَا عَلَوْاْ} ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم، وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم، فاليهود بذاتهم ضعفاء، لا تقوم لهم قائمة، وهذا واضح في قَوْل الحق سبحانه عنهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس..} [آل عمران: 112].
فهم أذلاء أينما وُجدوا، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظِلِّه، كما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويُعاونونهم.
واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهُويّة لا تذوب في غيرهم من الأمم، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى (حارة اليهود)، ولم يكن لهم ميْلٌ للبناء والتشييد؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً..} [الأعراف: 168].
كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية، أما الآن، وبعد أنْ أصبح لهم وطن قومي في فلسطين على حَدِّ زعمهم، فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد.
ونحن الآن ننتظر وَعْد الله سبحانه، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا، ونعود إلى ساحة ربنا، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى، وتكون لنا الكرّة الأخيرة عليهم، سيتحقق لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلامية وإيمانية، لا على عروبة وعصبية سياسية، لتعود لنا صِفَة العباد، ونكون أَهْلاً لِنُصْرة الله تعالى.
إذن: طالما أن الحق سبحانه قال: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة..} [الإسراء: 7].
فهو وَعْد آتٍ لا شَكَّ فيه، بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصِّها في آخر السورة في قوله تعالى: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104].
والمتأمل لهذه الآية يجد بها بشارة بتحقُّق وَعْد الله، ويجد أن ما يحدث الآن من تجميع لليهود في أرض فلسطين آية مُُرادة لله تعالى.
ومعنى الآية أننا قُلْنا لبني إسرائيل من بعد موسى: اسكنوا الأرض وإذا قال لك واحد: اسكُنْ فلابد أن يُحدد لك مكاناً من الأرض تسكن فيه فيقول لك: اسكن بورسعيد.. اسكن القاهرة.. اسكن الأردن.
أما أن يقول لك: اسكن الأرض!! فمعنى هذا أن الله تعالى أراد لهم أنْ يظلُّوا مبعثرين في جميع الأنحاء، مُفرِّقين في كل البلاد، كما قال عنهم: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً..} [الأعراف: 168].
فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم، كثيراً ما تُثار بسببهم المشاكل، فيشكو الناس منهم ويقتلونهم، وقد قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} [الأعراف: 167].
وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكَدٍ بين سكان الأرض إلى يوم القيامة، وهذه الخميرة هي في نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة للإيمان والخير؛ لأن الإسلام لا يلتفت إليه أهله إلا حين يُهَاج الإسلام، فساعة أنْ يُهَاجَ تتحرك النزعة الإيمانية وتتنبّه في الناس.
إذن: فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة، وهي إثارة الحيوية الإيمانية في النفوس، فلو لم تُثَر الحيوية الإيمانية لَبهتَ الإسلام.
وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل، فلوجودهما حكمة؛ لأن الكفر الذي يشقي الناس به يُلفِت الناس إلى الإيمان، فلا يروْنَ راحة لهم إلا في الإيمان بالله، ولو لم يكُنْ الكفر الذي يؤذي الناس ويُقلق حياتهم ما التفتوا إلى الإيمان.
وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويُزعجهم، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه.
وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها، أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل، فأوحَوْا إليهم بفكرة الوطن القومي، وزيَّنُوا لهم أولى خطوات نهايتهم، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد.
وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمّع اليهود بها نكاية في الإسلام والمسلمين، ولكن الحقيقة غير هذا، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم: {عِبَاداً لَّنَآ..} [الإسراء: 5].
يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مُفرّقون مُبعْثرون في كل أنحاء العالم، فلن نحارب في العالم كله، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون، في كل بلد شِرْذمة منهم؟
إذن: ففكرة التجمُّع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيَّدتْها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام، وتُسهِّل علينا تتبعهم وتُمكّننا من القضاء عليهم؛ لذلك يقول تعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104].
أي: أتينا بكم جميعاً، نضمُّ بعضكم إلى بعض، فهذه إذن بُشرى لنا معشر المسلمين بأن الكَرَّة ستعود لنا، وأن الغلبة ستكون في النهاية للإسلام والمسلمين، وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله، ونتجه إليه كما قال سبحانه: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} [الأنعام: 43].
والمراد بقوله هنا: {وَعْدُ الآخرة..} [الإسراء: 7].
هو الوعد الذي قال الله عنه: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..} [الإسراء: 7].
ثم يقول الحق سبحانه: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://el-quran.ahlamontada.com
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 4240
تاريخ التسجيل : 20/01/2018

  تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي      تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي	 Emptyالجمعة مارس 02, 2018 5:46 am


♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️••♥️
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ♥️لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ ♥️سُبْحَانَ اللَّهِ ♥️وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ♥️وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ♥️وَاللهُ أَكْبَرُ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، ♥️وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، ♥️كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ♥️وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، ♥️إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، ♥️وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، ♥️وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، ♥️كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ♥️وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ،♥️فِي الْعَالَمِينَ ♥️إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ♥️صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ ♥️الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، ♥️الحَيُّ القَيُّومُ، ♥️وَأتُوبُ إلَيهِ
حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ ♥️عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ♥️وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
حسبنا الله ♥️♥️ونعم الوكيل ♥️نعم المولى ♥️ونعم النصير
اللَّهُمَّ انصر واعز الاسلام والمسلمين ♥️واعلي بفضلك كلمتي الحق والدين

*۞ اللَّهُمَّ إجعل ما كتبناهُ وما قلناهُ وما نقلناه ♥️حُجة ً لنا لا علينا ♥️يوم ان نلقاك *

وأنا مُلْتَمِسٌ من قارئ حازَ من هذا السِّفر نَفْعَاً ألا ينساني بدعوة صالحة خالصة في السَّحَر ، وليعلم أن ما في هذا الكتاب مِن غُنْم فحلال زُلال له ولغيره ، وما كان مِن غرم فهو عَلَى كاهلي وظهري ، وأبرأ إلى الله من كل خطأ مقصود ، وأستعيذه من كل مأثم ومغرم ‏.‏
فدونك أيها القارئ هذا الكتاب ، اقرأه واعمل بما فيه ، فإن عجزت فَأَقْرِأْهُ غيرَك وادْعُه أن يعمل بما فيه ، فإن عجزتَ – وما إِخَالُكَ بِعَاجِزٍ – فبطْن الأرض حينئذ خيرٌ لك من ظاهرها ‏.‏
ومن سويداء قلبي أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعك بما فيه وأن يقوّيَك على العمل بما انتفعت به ، وأن يرزقك الصبر على ما قد يلحقك من عَنَتٍ وأذى ، وأن يتقبل منك سعيك في خدمة الدين ، وعند الله اللقاء ، وعند الله الجزاء
ونقله لكم الْأَمَةُ الْفَقِيرَةَ الى عفو الله ومرضاته . غفر الله لها ولوالديها ولاخواتها وذرياتها ولاهلها ولأُمّة نبينا محمد صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجمعين ويجعلنا من عباده الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِوَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَالْمُحْسِنِينَ والْمُتَّقِينَ الأَحيَاءِ مِنهُم وَالأَموَاتِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ويجمعنا اجمعين فى اعلى درجات الجنة مع نبينا محمد وجميع النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
تحققت الآمال و توفر لهم كل شئ فلم يبق إلا الثناء
وأخيرًا أسأل الله أن يتقبلني انا وذريتى ووالداى واخواتى واهلى والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وامة محمد اجمعين صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاحياء منهم والاموات شهيدًا في سبيله وأن يلحقناويسكنا الفردوس الاعلى من الجنة مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا أسألكم أن تسامحوني وتغفروا لي زلاتي وأخطــائي وأن يرضى الله عنا وترضــوا عنــا وتهتمــوا وأسال الله العظيم ان ينفع بمانقلت للمسلمين والمسلمات
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
آميــٍـِـِـٍـٍـٍنْ يـــآرّبْ العآلميــــن
♥️♥️♥️۞ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَىَ وأَعْلَمُ وأَحكَمُ، ورَدُّ العلمِ إليه أَسلَمُ ♥️♥️♥️
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://el-quran.ahlamontada.com
 
تفسير سورة الإسراء صفحة 282 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  تفسير سورة الإسراء صفحة 283 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي
»  تفسير سورة الإسراء صفحة 284 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي
»  تفسير سورة الإسراء صفحة 285 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي
»  تفسير سورة الإسراء صفحة 286 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي
»  تفسير سورة الإسراء صفحة 287 من القرآن الكريم للشيخ الشعراوي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
القرآن الكريم والسُنَّة النبوية والاعجاز :: ♥(( اقسام القرآن الكريم ))♥ :: القرآن الكريم وعلم التفسير-
انتقل الى: