" العُجْــب "
أولًا : في القرآن الكريم :
أما العُجْب في القرآن الكريم فقد وردت فيه عدة آيات تبين خطره، وتنبه على أنه آفة تجرُّ وراءها آفات دنيوية وعقوبات أخروية، فمن تلك الآيات :
- قال الله تبارك وتعالى : " لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ " [التوبة: 25] .
(قال جعفر : استجلاب النصر في شيء واحد، وهو الذلة والافتقار والعجز... وحلول الخذلان بشيء واحد وهو العُجْب...) [تفسير السلمى] .
- وقال الله تبارك وتعالى : " وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا " [الكهف: 32-36] .
قال ابن عاشور : (ضرب مثلًا للفريقين : للمشركين، وللمؤمنين، بمثل رجلين كان حال أحدهما معجبًا مؤنقًا، وحال الآخر بخلاف ذلك، فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تبابًا وخسارةً، وكانت عاقبة الآخر نجاحًا، ليظهر للفريقين ما يجرُّه الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الإزراء، وما يلقاه المؤمن المتواضع، العارف بسنن الله في العالم، من التذكير، والتدبر في العواقب، فيكون معرضًا للصلاح والنجاح) [التحرير والتنوير] .
ثانيًا : في السنة النبوية :
- عن أَبي هريرة رضي الله عنه : ((بينا رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجل جمته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)) [رواه البخارى ومسلم] .
قال أبو العباس القرطبي : (يفيد هذا الحديث ترك الأمن من تعجيل المؤاخذة على الذنوب، وأن عجب المرء بنفسه وثوبه وهيئته حرام وكبيرة) [طرح التثريب] .
- وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو لم تذنبوا، لخشيت عليكم ما هو أكبر منه العُجْب)) [حسنه لغيره الألبانى فى صحيح الترغيب] .
قال المناوي تعليقًا على هذا الحديث : (لأن العاصي يعترف بنقصه، فترجى له التوبة، والمعجب مغرور بعمله فتوبته بعيدة) [فيض القدير شرح الجامع الصغير] .
أقوال السلف والعلماء في العُجْب :
- قال عمر رضي الله عنه : (أخوف ما أخاف عليكم أن تهلكوا فيه ثلاث خلال : شحٌّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) [رواه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله] .
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الإعجاب ضدُّ الصواب وآفة الألباب) [أدب الدنيا والدين،لماوردى] .
- وقالت عائشة رضي الله عنها : (لبست مرة درعًا جديدًا، فجعلت أنظر إليه، وأعجب به، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أما علمت أنَّ العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا، مقته ربُّه حتى يفارق تلك الزينة ؟ قالت : فنزعته فتصدقت به، فقال أبو بكر رضي الله عنه : عسى ذلك أن يكفِّر عنك) [رواه أبو نعيم فى حلية الأولياء] .
- وعن كعب أنه قال لرجل رآه يتبع الأحاديث : (اتق الله، وارض بالدون من المجلس، ولا تؤذ أحدًا؛ فإنَّه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العُجْب، ما زادك الله به إلا سفالًا ونقصانًا) [رواه أبو نعيم فى حلية الأولياء] .
- وقال أبو الدرداء : (علامة الجهل ثلاث : العُجْب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه) [رواه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله] .
- وعن مسروق قال : (كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلًا أن يُعجب بعلمه) [جامع بيان العلم وفضله،لابن عبد البر] .
- وقال علي بن ثابت : (المال آفته التبذير والنهب، والعلم آفته الإعجاب والغضب) [رواه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله] .
من آثار العُجْب :
1- أنه يدعو إلى الكبر؛ لأنَّه أحد أسبابه، قال ابن الجوزِيِّ : (اعلم أَنَّ من أَسباب الْكِبْرِ العُجْب، فَإِنَّ من أُعْجِب بِشَيْءٍ تكبَّر به) [غذاء الألباب للسفارينى] .
وقال المحاسبي : (إن أوَّل بدوِّ الكبر العُجْب، فمن العُجْب يكون أكثر الكبر، ولا يكاد المعجب أن ينجو من الكبر...) [الرعاية فى حقوق الله] .
2- أنه يتولد عنه الكثير من الأخلاق السيِّئة والصِّفات الرديئة، كالتيه وازدراء الآخرين، لذا قيل فِي تَعْرِيفِ التِّيهِ : (هو خلق متولد بين أمرين : إعجابه بنفسه، وإزراؤه بغيره، فيتولَّد من بين هذين التيه) [غذاء الألباب شرح منظومة الآداب] .
3- يدعو إلى إهمال الذنوب ونسيانها، فلا يحدث العبد بعد ذلك توبة .
قال المحاسبي : (يجمع العُجْب خصالًا شتى: يعمى عليه كثير من ذنوبه، وينسى مما لم يعم عليه منها أكثرها، وما ذكر منها كان له مستصغرًا، وتعمى عليه أخطاؤه، وقوله بغير الحق) [الرعاية فى حقوق الله] .
4- يجعل العبد يستعظم أعماله، وطاعاته، ويمنُّ على الله بفعلها .
5- يدعو العبد إلى الاغترار بنفسه، وبرأيه، ويأمن مكر الله، وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، ولا يسمع نصح ناصح، ولا وعظ واعظ .
6- يمنعه عن سؤال أهل العلم .
7- يحبط العمل، ويفسده، ويذهب به .
حكم العُجْب :
العُجْب كبيرة من كبائر الذنوب التي تستحق غضب الله، ومقته، وعذابه في الدنيا والآخرة .
فهو سجيَّة مذمومة، وطبع سيِّئ مبغوض، قال ابن حزم : (إن العُجْب من أعظم الذنوب وأمحقها للأعمال. فتحفظوا، حفظنا الله وإيَّاكم من العُجْب والرياء) [رسائل ابن حزم] .
ويقول الغزالي : (اعلم أن العُجْب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا " [التوبة: 25] ذكر ذلك في معرض الإنكار وقال عزَّ وجلَّ : " وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا " [الحشر: 2] فردَّ على الكفَّار في إعجابهم بحصونهم، وشوكتهم، وقال تعالى : " وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا "[الكهف: 104])[إحياء علوم الدين] .
من صور العُجْب :
قد يحصل العُجْب بصفات اضطرارية وقد يحصل بصفات اختيارية، والفرق بينهما أن الصفات الاضطرارية هي ما خلقت في الإنسان ابتداء دون أن يكون له تدخل فيها، كالجمال والنسب وغيرها، أما الاختيارية فهي ما تحصل عليها ببذل مجهود واكتسبها بعد أن لم يكن متصفًا بها، كالعلم والمال والجاه وغيرها. وكلها العُجْب بها مذموم، (ولا فرق بين أن تكون تلك الخصلة التي حصل بها الإعجاب اضطرارية، كجمال، أو فصاحة، أو كثرة عشيرة، أو مال، أو بنين، أم اختيارية، كإقدام، أو كثرة علم، أو طاعة، أو نحو ذلك، فإن العُجْب بذلك كله قبيح شرعًا، ولا أعرف فيه خلافًا) [البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار،لابن المرتضى] .
ونذكر هنا الإعجاب ببعض الصفات الاضطرارية والاختيارية ومنها :
- الإعجاب بالعقل الراجح، والذكاء .
- الإعجاب بالرأي السديد .
- الإعجاب بالعلم وغزارته، والتفوق على الأقران فيه .
- الإعجاب بالشَّجَاعَة، والإقدام، والقوة والبأس .
- الإعجاب بجمال الصورة، وحسن المظهر .
- الإعجاب بالجاه، والمنصب، والرئاسة، والتصدر .
- الإعجاب بالعبادة، والطاعة .
- الإعجاب بما يقدمه من خير، ومنفعة للناس .
من أسباب العُجْب :
1- تولِّي المناصب القيادية، من سلطة أو قضاء، أو إدارة أو إشراف، وغير ذلك من المسؤوليات .
2- التمتع بصفة أو مزيَّة تجعله يتميز عن غيره فيها، سواء كانت هذه الصفة اضطرارية كالجمال، أو فصاحة اللسان، أو النسب، أو العشيرة، أو المال والبنين، أو غيرها، أو كانت تلك الصفة اختيارية، كالعلم، والطاعة، والإقدام، وغيرها .
3- المبالغة في التوقير، والاحترام، من الأتباع، وفي ذلك قاصمة ظهر للمتبوع.
4- قلَّة الورع، والتقوى، وضعف المراقبة لله عزَّ وجلَّ .
5- قلَّة الناصح والموجه، أو فقده بالكلية .
6- عدم التفكر في حال الدنيا، والافتتان بها، وبزخرفها الفاني، بالإضافة إلى اتباع هوى النفس ومتابعتها فيها .
7- الغفلة عن نهاية العُجْب والمعجبين، ومآلهم في الدنيا والآخرة .
8- عدم التأمل في النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية، الناهية عن هذه السجيَّة القبيحة، الآمرة بضدها من تواضع وخفض جناح .
9- الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ، والركون إلى عفوه ومغفرته .
من علامات العُجْب :
هناك بعض العلامات والأمارات التي تظهر في سلوك المعجب بنفسه منها :
1- تزكية النفس، والرفع من شأنها .
2- عدم سماع النصيحة، والاستعصاء على التوجيه والإرشاد .
3- الفرح بسماع عيوب الآخرين خاصة الأقران .
4- رد الحق والترفع عن الاستجابة لداعيه .
5- احتقار الناس، وتصعير الخد لهم .
6- الاستنكاف عن استشارة العقلاء، والفضلاء .
7- الاختيال والتبختر في المشي .
8- استعظام الطاعة واستكثارها، والمنة على الله بها .
9- المباهاة بالعلم، والتفاخر به، وجعله وسيلة للمماراة والجدل .
10- التباهي بالأحساب والأنساب، واحتقار الناس من أجل ذلك .
من الوسائل المعينة على ترك العُجْب :
يصف ابن حزم علاج العُجْب، ويجعل له علاجًا عامًّا يتداوى به كلُّ من أصيب بهذا الداء العضال، والآفة القاتلة، وهذا العلاج يكمن في التفكر في عيوب النفس، والنظر إلى نقصها وضعفها فيقول : (من امتحن بالعُجْب فليفكِّر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله، فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنية، فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنَّه لا عيب فيه، فليعلم أنَّه مصيبة للأبد، وأنَّه أتمُّ الناس نقصًا، وأعظمهم عيوبًا، وأضعفهم تمييزًا... فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه، والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها، وعن عيوب غيره التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة...
ثم تقول للمعجب : ارجع إلى نفسك، فإذا ميَّزت عيوبها فقد داويت عجبك، ولا تميل بين نفسك وبين من هو أكثر منها عيوبًا فتستسهل الرذائل، وتكون مقلدًا لأهل الشرِّ) [رسائل ابن حزم] .
ثم يتكلم ابن حزم عن علاج لبعض الحالات الخاصة من حالات العُجْب ننقلها هنا بتصرف يسير :
- علاج من أعجب بعقله :
(فإن أعجبت بعقلك، ففكر في كلِّ فكرة سوء تمرُّ بخاطرك، وفي أضاليل الأماني الطائفة بك، فإنَّك تعلم نقص عقلك حينئذ .
- علاج من أعجب برأيه :
وإن أعجبت بآرائك، فتفكَّر في سقطاتك، واحفظها ولا تنسها، وفي كلِّ رأي قدرته صوابًا، فخرج بخلاف تقديرك، وأصاب غيرك وأخطأت أنت، فإنَّك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك صوابه، فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك. وهكذا كلُّ أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم .
- علاج من أعجب بما يقدمه من الخير :
وإن أعجبت بخيرك، فتفكَّر في معاصيك، وتقصيرك، وفي معايبك ووجوهها، فوالله لتجدنَّ من ذلك ما يغلب على خيرك، ويعفي على حسناتك، فليطل همك حينئذ من ذلك، وأبدل من العُجْب تنقيصًا لنفسك .
- علاج من أعجب بعلمه :
وإن أعجبت بعلمك، فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة، وهبك إياها ربك تعالى، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت...
واعلم أنَّ كثيرًا من أهل الحرص على العلم يجدون في القراءة، والإكباب على الدرس والطلب، ثم لا يرزقون منه حظًّا، فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصحَّ أنه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا ! ما هذا إلا موضع تواضع، وشكر لله تعالى، واستزادة من نعمه، واستعاذة من سلبها .
ثم تفكر أيضًا، في أنَّ ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم الذي تختص به، والذي أعجبت بنفاذك فيه، أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العُجْب استنقاصًا لنفسك واستقصارًا لها، فهو أولى، وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيرًا، فلتهن نفسك عندك حينئذ .
وتفكر في إخلالك بعلمك، فإنك لا تعمل بما علمت منه، فعلمك عليك حجة حينئذ، لقد كان أسلم لك لو لم تكن عالـمًا، واعلم أنَّ الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالًا وأعذر، فليسقط عجبك بالكلية .
ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه، من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها، كالشعر، وما جرى مجراه، فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة، فتهون نفسك عليك .
- علاج من أعجب بشجاعته :
وإن أعجبت بشجاعتك، فتفكر فيمن هو أشجع منك، ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيما صرفتها، فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس بثمن لها، وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بعجبك، ثم تفكر في زوالها عنك بالشيخ، وإنك إن عشت فستصير في عداد العيال وكالصبي ضعفًا...
- علاج من أعجب بجاهه :
وإن أعجبت بجاهك في دنياك، فتفكر في مخالفيك، وأندادك، ونظائرك، ولعلهم أخساء، وضعاء، سقاط، فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه، ولعلهم ممن يستحيي من التشبه بهم، لفرط رذالتهم، وخساستهم في أنفسهم، وفي أخلاقهم، ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شارك فيها من ذكرت لك .
إن كنت مالك الأرض كلها ولا خليفة عليك - وهذا بعيد جدًّا في الإمكان- فما نعلم أحدًا ملك معمور الأرض كلها على قلته وضيق مساحته بالإضافة إلى غامرها، فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط...
وإن كنت ملك المسلمين كلهم، فاعلم أنَّ ملك السودان وهو رجل أسود مكشوف العورة جاهل، يملك أوسع من ملكك، فإن قلت أخذته بحقٍّ، فلعمري ما أخذته بحقٍّ إذ استعملت فيه رذيلة العُجْب، وإذا لم تعدل فيه فاستحي من حالك، فهي حالة لا حالة يجب العُجْب فيها .
- علاج من أعجب بماله :
وإن أعجبت بمالك، فهذه أسوأ مراتب العُجْب، فانظر في كلِّ ساقط خسيس فهو أغنى منك، فلا تغتبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت، واعلم أنَّ عجبك بالمال حمق؛ لأنَّه أحجار لا تنتفع بها إلا بأن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط، والمال أيضًا غاد ورائح، وربما زال عنك، ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعل ذلك يكون في يد عدوك، فالعُجْب بمثل هذا سخف، والثقة به غرور وضعف .
- علاج من أعجب بجماله وحسن منظره :
وإن أعجبت بحسنك، ففكر فيما عليك مما نستحيي نحن من إثباته، وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السنِّ .
- علاج من أعجب بمدح الناس له :
وإن أعجبت بمدح إخوانك لك، ففكر في ذمِّ أعدائك إياك، فحينئذ ينجلي عنك العُجْب، فإن لم يكن لك عدو فلا خير فيكن ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس الله تعالى عنده نعمة يحسد عليها، عافانا الله.
فإن استحقرت عيوبك، ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس، وتمثل اطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل وتعرف قدر نقصك إن كانت لك مسكة من تمييز...
- علاج من أعجب بنسبه :
وإن أعجبت بنسبك، فهذه أسوأ من كلِّ ما ذكرنا؛ لأنَّ هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلًا في دنيا ولا آخرة. وانظر هل يدفع عنك جوعة، أو يستر لك عورة، أو ينفعك في آخرتك .
ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك، وربما فيما هو أعلى منه ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام، ثم ولادة الخلفاء، ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء، ثم ولادة ملوك العجم، من الأكاسرة والقياصرة، ثم ولادة التبابعة وسائر ملوك الإسلام، فتأمل غبراتهم وبقاياهم، ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك، تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة، وتلقهم في غاية السقوط والرذالة، والتبذل والتحلي بالصفات المذمومة، فلا تغتبط بمنزلة هم نظراؤك أو فوقك .
- علاج من طلب المدح عجبًا بنفسه :
فإن تعدى بك العُجْب إلى الامتداح، فقد تضاعف سقوطك؛ لأنَّه قد عجز عقلك عن مفارقة ما فيك من العُجْب، هذا إن امتدحت بحق، فكيف إن امتدحت بكذب! وقد كان ابن نوح وأبو إبراهيم وأبو لهب، عم النبي صلى الله عليه وعلى نوح وإبراهيم وسلم، أقرب الناس من أفضل خلق الله تعالى من ولد آدم وممن الشرف كله في اتباعهم، فما انتفعوا بذلك .
العُجْب عند الحكماء والأدباء :
- قال ابن المقفع : (العُجْب آفةُ العقل، واللجاجةُ قُعودُ الهوى، والبُخل لقاحُ الحرصِ، والمراءُ فسادُ اللسانِ، والحميةُ سببُ الجهلِ، والأنفُ توأمُ السفهِ، والمنافسة أختُ العداوةِ) [الأدب الصغير والأدب الكبير] .
- وقال أيضًا : (واعلم أن خفضَ الصوتِ، وسكون الريحِ، ومشي القصدِ، من دواعي المودةِ، إذا لم يخالط ذلك بأْو ولا عجبٌ،أما العُجْب فهو من دواعي المقتِ والشنآن) [الأدب الصغير والأدب الكبير] .
- وقال فيلسوف : (العُجْب فضيلة، يراها صاحبها في غيره، فيدعيها لنفسه) [البصائر والذخائر ،لأبى حيان] .
- وقيل لبزرجمهر : (ما النعمة التي لا يحسد عليها صاحبها، قال: التواضع، قيل له: فما البلاء الذي لا يرحم عليه صاحبه، قال : العُجْب) [جامع بيان العلم وفضله،لابن عبد البر] .
- وقال أبو عمرو بن العلاء : (الأخلاق المانعة للسؤدد، الكذب، والكبر، والسخف، والتعرض للعيب، وفرط العُجْب) [البصائر والذخائر ،لأبى حيان] .
- تكلم ربيعة الرأي يوما بكلام في العلم فأكثر، فكأن العجب داخله، فالتفت إلى أعرابي إلى جنبه، فقال : ما تعدون البلاغة يا أعرابي ؟ قال : قلة الكلام، وإيجاز الصواب؛ قال: فما تعدون العي ؟ قال : ما كنت فيه منذ اليوم. فكأنما ألقمه حجرًا [العقد الفريد،لابن عبد ربه] .
- وكان يقال : (المعجب لحوح، والعاقل منه في مؤونة، وأما العجب فإنه الجهل والكبر) [العقد الفريد،لابن عبد ربه] .
" العُــدْوَان "
ذَمُّ العُدْوَان والنَّهي عنه :
أولًا : في القرآن الكريم :
حذَّر الإسلام مِن العُدْوَان؛ لأنَّها صفة مذمومة ومقيتة، ونهى عن التَّعاون عليها، وقد وردت آياتٌ تحذِّر مِن العُدْوَان، منها قوله تعالى : " وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " [المائدة: 2] .
قال الطَّبري : ( " وَالْعُدْوَانِ " يقول : ولا على أن تتجاوزوا ما حدَّ الله لكم في دينكم، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم) [جامع البيان] .
- قال تعالى : " وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " [المائدة: 62] .
قال ابن كثير : (أي : يبادرون إلى ذلك مِن تعاطي المآثم والمحارم، والاعتداء على النَّاس، وأكلهم أموالهم بالباطل " لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " أي : لبئس العمل كان عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم) [تفسير القرآن العظيم] .
- قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " [المائدة: 87] .
قال السعدي : (والله قد نهى عن الاعتداء فقال : " وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك) [تيسير الكريم الرحمن] .
ثانيًا : في السُّنَّة النَّبويَّة :
- عن عائشة قالت : ((أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أناس مِن اليهود، فقالوا : السَّام عليك يا أبا القاسم، قال : وعليكم، قالت عائشة : قلت : بل عليكم السَّام والذَّام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لا تكوني فاحشة، فقالت : ما سمعتَ ما قالوا ؟ فقال : أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا ؟ قلتُ : وعليكم)) [رواه البخارى ومسلم] .
والمراد بالفحش هنا هو : (عُدْوَان الجواب) [القاموس المحيط ،للفيروز آبادى] .
- عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((المستبَّان ما قالا، فعلى البادئ، ما لم يعتد المظلوم)) [رواه مسلم] .
قال النَّوويُّ : (معناه أنَّ إثم السُّباب الواقع مِن اثنين مختصٌّ بالبادئ منهما كلُّه، إلَّا أن يتجاوز الثَّاني قدر الانتصار، فيقول للبادئ أكثر ممَّا قال له) [شرح النووى على صحيح مسلم] .
أقوال السَّلف والعلماء في العُدْوَان :
- عن أيوب قال : (مَرَّ ابن عمر برجل يكيل كيلًا كأنَّه يعتدي فيه، فقال له : ويحك ! ما هذا ؟ فقال له : أمر الله بالوفاء، قال ابن عمر : ونهى عن العُدْوَان) [رواه عبد الرزاق فى المصنف] .
- عن ابن الحنفيَّة قال : (دخل علينا ابن ملجم الحمَّام وأنا وحسن وحسين جلوسٌ في الحمَّام، فلمَّا دخل كأنَّهما اشمأزَّا منه، وقالا : ما أجرأك تدخل علينا ! قال فقلت لهما : دعاه عنكما، فلعمري ما يريد بكما أحشم مِن هذا، فلمَّا كان يوم أُتِي به أسيرًا، قال ابن الحنفيَّة : ما أنا اليوم بأعرف به منِّي يوم دخل علينا الحمَّام، فقال عليٌّ : إنَّه أسيرٌ فأحسنوا نزله وأكرموا مثواه، فإن بَقِيتُ قتلتُ أو عفوت، وإن متُّ فاقتلوه قِتْلَتِي ولا تعتدوا؛ إنَّ الله لا يحبُّ المعتدين) [رواه ابن سعد فى الطبقات الكبرى] .
- عن الرَّبيع قال : (سمعت الشَّافعي يقول : أنفع الذَّخائر التَّقوى، وأضرُّها العُدْوَان) [رواه أبو نعيم فى حلية الأولياء] .
- كتب الفضل بن يحيى إلى عامل له : (بئس الزَّاد إلى المعاد العُدْوَانُ على العباد) [التذكرة الحمدونية،لابن حمدون] .
من آثار العُدْوَان :
1- توعُّد المعتدي بدخول النَّار :
قال تعالى : " أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ " [ق: 24-25] .
(قال لمن استحق النار : " أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ " أي : كثير الكفر والعناد لآيات الله، المكثر من المعاصي، المجترئ على المحارم والمآثم " مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ " أي : يمنع الخير الذي عنده الذي أعظمه، الإيمان بالله وملائكته وكتبه، ورسله مناع، لنفع ماله وبدنه " مُعْتَدٍ "على عباد الله، وعلى حدوده " مُّرِيبٍ " أي : شاك في وعد الله ووعيده، فلا إيمان ولا إحسان ولكن وصفه الكفر والعدوان، والشك والريب، والشح، واتخاذ الآلهة من دون الرحمن) [تيسير الكريم الرحمن،للسعدى] .
2- المعتدي بعيد عن محبَّة الله والقرب منه :
قال تعالى : " ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " [الأعراف: 55] .
قال الطبري : (وأما قوله : " إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " [الأعراف: 55] فإن معناه : إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حده الذي حده لعباده في دعائه ومسألته ربه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حد لهم في دعائهم إياه ومسألتهم وفي غير ذلك من الأمور) [جامع البيان للطبرى] .
3- المعتدي على مال الغير دمه هدر :
نقل القرطبي عن أهل العلم قوله : (قال علماؤنا : ويُنَاشَد اللِّصُّ بالله تعالى، فإن كفَّ تُرِك، وإن أَبَى قُوتِل، فإن أنت قتلته فشَرُّ قتيلٍ، ودمه هدرٌ) [الجامع لأحكام القرآن] .
من صور العُدْوَان :
1- القتل :
مِن صور العُدْوَان قتل النَّفس بغير حقٍّ، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا " [النِّساء: 29-30] .
قال السعدي : (لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه، ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك " إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود) [تيسير الكريم الرحمن،للسعدى] .
2- أكل مال الغير بغير حقٍّ :
سواء بالسَّرقة أو الغصب أو النَّهب أو الاختلاس والاحتيال..، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا " [النِّساء: 29-30] .
يقول ابن كثير : (نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل، أي : بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا) [تفسير القرآن العظيم] .
3- العُدْوَان على الأعراض :
قال صلى الله عليه وسلم : ((فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحُرمة يومكم هذا)) [رواه البخارى ومسلم] .
ويشمل التَّعدِّي على الأعراض : الغيبة والسَّبَّ والشَّتم والقذف وغير ذلك .
من أسباب الوقوع في العُدْوَان :
1- مخالفة أوامر الله :
قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [البقرة: 178] .
2- اتَّباع الهوى :
قال تعالى : " وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ " [الأنعام: 119] .
يقول ابن كثير : (بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة، من استحلالهم الميتات، وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى : " فقال وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ " أي : هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم) [تفسير القرآن العظيم] .
3- الكراهية والبغضاء .
الملامح الأساسيَّة للشَّخصيَّة العُدْوَانيَّة :
يرى الأطباء النَّفسانيون أنَّ هناك سلوكيات يُعْرَف به الشَّخص العُدْوَاني مِن غيره، وهذه السُّلوكيَّات كالتَّالي :
1- المماطلة، حيث التَّأخير في إنجاز الأشياء التي يجب أداؤها .
2- سرعة التَّهيج، والمجادلة وعبوس الوجه، والتَّجهُّم عندما يطلب منه أن يؤدِّي عملًا غير مرغوب لديه .
3- يتعمَّد العمل ببطء أو بدون إتقان في المهام التي لا يريدها .
4- يحتجُّ كثيرًا دون تبرير بأنَّ النَّاس تطلب أشياء غير معقولة .
الوسائل المعينة على ترك العُدْوَان :
1- طاعة أوامر الله عزَّ وجلَّ .
2- البعد عن الهوى وزلَّات النَّفس .
3- تذكُّر الموت والعاقبة .
4- التَّضرُّع والدُّعاء .
5- البعد عن الوساوس في جميع أموره .
6- البعد عن المنافسة غير الشَّريفة .
" الغــدر "
ذم الغدر والنهي عنه :
أولًا : في القرآن الكريم :
- قال تعالى : " وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ " [النحل: 94] .
(أي : تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم - خديعةً، وغرورًا، ليطمئنوا إليكم، وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد، والنَّقلة إلى غيرهم، من أجل أنهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا وأعز نفرًا، بل عليكم بالوفاء بالعهود، والمحافظة عليها في كل حال) [تفسير المراغى] .
وقال ابن زيد، في قوله : " تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ " [النحل: 92] يغر بها، يعطيه العهد، يؤمنه وينزله من مأمنه، فتزل قدمه وهو في مأمن، ثم يعود يريد الغدر، " دَخَلاً بَيْنَكُمْ " [النحل: 92] قال قتادة : خيانة وغدرًا [جامع البيان،للطبرى] .
قال ابن كثير : (...لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فانصدَّ بسببه عن الدخول في الإسلام) [تفسير القرآن العظيم] .
- قال تعالى : " وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ " [النحل: 91] .
قال الطبري : (إنَّ الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان، بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحق مما لا يكرهه الله) [جامع البيان فى تأويل آى القرآن] .
قال الماوردي : (لا تنقضوها بالغدر، بعد توكيدها بالوفاء) [النكت والعيون] .
ثانيًا : في السنة النبوية :
- عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) [رواه البخارى] .
قال المناوي : (وإذا عاهد غدر) أي : نقض العهد [فيض القدير] .
وقال العظيم آبادي : (وإذا عاهد غدر) أي : نقض العهد وترك الوفاء بما عاهد عليه [عون المعبود] .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((قال الل ه: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعط أجره)) [رواه البخارى] .
قال المهلب : قوله : ((أعطى بي ثم غدر)) يريد : نقض عهدًا عاهده عليه [شرح صحيح البخارى ،لابن بطال] .
وقال المناوي : (... ((ثم غدر)) أي : نقض العهد الذي عاهد عليه؛ لأنَّه جعل الله كفيلًا له فيما لزمه من وفاء ما أعطى، والكفيل خصم المكفول به للمكفول له) [فيض القدير] .
أقوال السلف والعلماء في الغدر :
- قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : (الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع،ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كَيسًا ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله ؟ قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، ودونها مانع من الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا خريجة له في الدين) [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار،للزمخشرى] .
- وقال أيضًا : (إذا كان الغدر طبعًا، فالثقة بكل أحد عجز) [المستطرف ،للأبشيهى] .
- وقال عديُّ بن حاتم : (أتينا عمر في وفد، فجعل يدعو رجلًا رجلًا ويسمِّيهم،فقلت : أما تعرفني يا أمير المؤمنين ؟ قال : بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال عديُّ : فلا أبالي إذًا) [رواه البخارى] .
- وقال ابن حزم : (الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم، وهو المسلاة حقًّا، ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان، ناسيًا أو متصبرًا، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه) [طوق الحمامة،لابن حزم] .
من آثار الغدر :
1- قسوة القلب :
لقد كانت قسوة القلب سمة بارزة في أهل الكتاب، لاسيما اليهود لكثرة نقضهم العهد والمواثيق، قال تعالى : " فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ " [المائدة: 13-14] .
2- تحمل الجزاء المترتب على الغدر :
ذلك أنَّ الغدر يؤدي إلى خسائر بدنية أو نفسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية وقد تكون هذه جميعًا، ولابد من ضمان التلف في جزاء يتولاه ولي الأمر أو نائبه، أو تتولاه الرعية حين يغدر ولي الأمر، فيضيع من هم في رعايته .
3- براءة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الغدر :
ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاء بمنهاج يدعو إلى الوفاء مع الخالق، والمخلوق، ومع العدو، والصديق، بل حتى مع الدواب، والجمادات، ثم طبق ذلك عمليًّا على نفسه حين استبقى عليًّا مكانه في فراشه ليلة الهجرة، ليرد الودائع إلى أصحابها، ووفى بعهده مع اليهود، لولا أنهم غدروا، ووفى مع المشركين في مكة والطائف وغيرهما، لولا غدرهم وخيانتهم .
4- حلول اللعنة على الغادر من الله، والملائكة، والناس أجمعين :
ذلك أن الله يغار حين يرى العبد أكل نعمته، ثم غدر فاستخدمها في معصيته وحربه، وتمثل هذه الغيرة في حلول اللعنة، ومعه سبحانه الملائكة، والناس أجمعين برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم .
5- الانتظام في سلك المنافقين :
ذلك أنَّ الغادر أظهر شيئًا في الوقت الذي أبطن فيه خلافه، ومثل هذا الصنف من الناس يجب توقيه، والحذر منه؛ لأنه لم يعد محل ثقة ولا أمانة، إذ يظهر الموافقة على العهود والالتزام، ثم يخفي النقض والغدر .
من صور الغدر :
لغدر صور كثيرة، نذكر منها ما يلي [آفات على الطريق،لسيد محمد نوح،بتصرف] :
1- نقض العهد الذي أخذ الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره، إذ يقول سبحانه : " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ " [الأعراف: 172-173] .
2- نقض العهد الذي وصى الله به خلقه، من فعل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأفعال، وترك ما لا يحبه الله ولا يرضاه، من الأقوال، والأفعال، والذي تضمنته كتبه المنزلة، وبلغه رسله عليهم الصلاة والسلام، ومعنى نقض هذا العهد ترك العمل به .
3- نقض العهد المأخوذ على بني آدم من النظر في أدلة وحدانيته، وكمالاته المنصورة في الكون، وفي النفس، والذي تحدث به عنه رب العزة في قوله تعالى : " وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ " [الذاريات:20-21] .
4- نقض العهد الذي أخذه الله على النبيين وأتباعهم أن يؤمنوا بهذا النبي، وأن ينصروه، وذلك في قوله سبحانه : " وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " [آل عمران: 81-82] .
5- نقض العهد الذي للإمام ونائبه على المسلمين، من وجوب الطاعة في المعروف، ونصرة دين الله عزَّ وجلَّ، دون مبرر شرعي يقتضي ذلك .
من أسباب الوقوع في الغدر :
1- ضعف التربية وفساد البيئة .
2- حب الكفار وموالاتهم .
3- صحبة الذين اشتهروا بالغدر .
4- ضعف الإيمان بالله .
من الوسائل المعينة على ترك الغدر :
1- تقوية الإيمان بالله تعالى .
2- البعد عن أصدقاء السوء ومجالسة أهل الصلاح .
3- التأمل في الآثار الوخيمة للغدر على الفرد والمجتمع .
4- تدبر الآيات القرآنية التي حذرت من الغدر، وعدم الوفاء .
من أقوال الحكماء :
- قالوا : الغالب بالغدر مغلول، والناكث للعهد ممقوت مخذول [نهاية الأرب فى فنون الأدب،للنويرى] .
- وقالوا : لا عذر في الغدر، والعذر يصلح في كلِّ المواطن، ولا عذر لغادر ولا خائن [نهاية الأرب فى فنون الأدب،للنويرى] .
- (وفي بعض الكتب المنزَّلة : إنَّ مما تعجَّل عقوبته من الذنوب، ولا يؤخر، الإحسان يُكفر، والذِّمة تُخفر [نهاية الأرب فى فنون الأدب،للنويرى] .
- من عاشر الناس بالمكر كافؤوه بالغدر [مجمع الأمثال ،للميدانى] .
- وقالوا : الغدر ضامن العثرة، قاطع ليد النُّصرة [نهاية الأرب فى فنون الأدب،للنويرى] .
- كان يقال :لم يغدر غادر قط إلا لصغر همته عن الوفاء، واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار،للزمخشرى] .
" الغــش "
ذم الغش والنهي عنه :
أولًا : في القرآن الكريم :
- قال تعالى : " تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ " [النحل: 92] .
قال الواحدي : (الدخل والدغل : الغش والخيانة، قال الزجاج : غشًّا ودغلًا) [التفسير الوسيط] .
وقال الماوردي : (الدخل : الغل والغش) [النكت والعيون] .
- قوله تعالى : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا " [النساء:58] .
من الأمانة (أمانة العبد مع الناس، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك) [تفسير المراغى] .
(والأمانة حقٌّ عند المكلف، يتعلَّق به حقُّ غيره، ويُودِعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير؛ كالمال والعلم، سواء كان المودَع عنده ذلك الحق، قد تَعاقَد مع المودِع على ذلك بعقد قولي خاص صرَّح فيه... أم لم يكن كذلك، فإنَّ ما جرى عليه التعامُل بين الناس في الأمور العامَّة هو بمثابة ما يَتعاقَد عليه الأفراد في الأمور الخاصة) [تفسير المنار،لمحمد رشيد رضا] .
- " وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ " [المائدة: 13] .
قال الواحدي : (أي : على خيانة، قال مقاتل : يعني بالخيانة : الغش للنبي صلى الله عليه وسلم) [التفسير الوسيط] .
ثانيًا : في السنة النبوية :
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرةطعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال : ((ما هذا يا صاحب الطَّعام ؟ قال : أصابته السَّماء يا رسول الله، قال : أفلا جعلته فوق الطَّعام كي يراه النَّاس ؟ من غشَّ فليس منِّي)) [رواه مسلم] .
قال الخطَّابي : (معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا، يريد أنَّ من غشَّ أخاه وترك مناصحته، فإنَّه قد ترك اتباعي والتمسك بسنَّتي) [معالم السنن] .
وقال القاضي عياض : (معناه بيِّن في التحذير من غشِّ المسلمين، لمن قلده الله تعالى شيئًا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم) [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج،للنووى] .
وقال العظيم آبادي : (والحديث دليلٌ على تحريم الغشِّ، وهو مُجمَع عليه) [عون المعبود شرح سنن أبى داود] .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من طعام، لا سمراء)) [رواه مسلم] .
قال ابن عبد البر : (وهذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وأصل فيمن دلَّس عليه بعيب، أو وجد عيبًا بما ابتاعه، أنه بالخيار في الاستمساك أو الرد) [التمهيد] .
وقال الأمير الصنعاني : (الحديث أصل في النَّهي عن الغش، وفي ثبوت الخيار لمن دلَّس عليه) [سبل السلام] .
أقوال السلف والعلماء في الغش :
- قال ابن عباس رضي الله عنهما : (لا يزال الرَّجل يزداد في صحَّة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشَّه سلبه الله نصحه ورأيه) [الذريعة إلى مكارم الشريعة،للراغب الأصفهانى] .
- وقال الراغب : (لا يلتفتنَّ إلى من قال: إذا نصحت الرَّجل فلم يقبل منك فتقرَّب إلى الله بغشِّه، فذلك قول ألقاه الشَّيطان على لسانه، اللهمَّ إلَّا أن يريد بغشِّه السُّكوت عنه، فقد قيل : كثرة النَّصيحة تورث الظَّنَّة، ومعرفة النَّاصح من الغاشِّ صعبة جدًّا، فالإنسان - لمكره - يصعب الاطِّلاع على سرِّه، إذ هو قد يبدي خلاف ما يخفي، وليس كالحيوانات الَّتي يمكن الاطِّلاع على طبائعها) [الذريعة إلى مكارم الشريعة،للراغب الأصفهانى] .
- (وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلى السلعة يبيعها بصَّر عيوبها ثم خيَّره، وقال : إنْ شئت فخذ، وإنْ شئت فاترك، فقيل له : إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال : إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم) [رواه ابن سعد فى الطبقات الكبرى] .
- (وكان واثلة بن الأسقع واقفًا؛ فباع رجل ناقة له بثلاثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة؛ فسعى وراءه وجعل يصيح به : يا هذا أشتريتها للحم أو للظهر ؟ فقال : بل للظهر، فقال : إن بخفها نقبًا قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة : رحمك الله أفسدت عليَّ بيعي، فقال : إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم) [إحياء علوم الدين،للغزالى] .
- وباع ابن سيرين شاة فقال للمشتري: (أبرأ إليك من عيب فيها، أنها تقلِّب العلف برجلها) [إحياء علوم الدين،للغزالى] .
من آثار الغش :
1- براءة النبي صلى الله عليه وسلم من مرتكب جريمة الغش .
2- الغاش بعيد عن الناس بعيد عن الله .
3- الغاش قليل التحصيل، دنيء الهمة .
4- الغاش متهاون بنظر الله إليه .
5- الغاش مرتكب كبيرة من الكبائر المحرمة .
6- الغاش ممحوق البركة .
7- الغش خيانة للأمانة التي كلف الإنسان بحملها .
8- الغش دليل ضعف الإيمان .
9- الغش سبب من أسباب الفرقة بين المسلمين .
10- الغش طريق موصل للنار .
حكم الغش :
لا شك أن الغش حرام، وبعض العلماء مثل الذهبي عدُّوه كبيرة من كبائر الذنوب [الكبائر] .
قال ابن حجر الهيتمي : (... فذلك أعني ما حكي من صور ذلك الغش التي يفعلها التجار، والعطَّارون، والبزَّازون، والصوَّاغون، والصَّيارفة، والحيَّاكون، وسائر أرباب البضائع، والمتاجر، والحرف، والصنائع، كله حرام شديد التحريم، موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش، خائن يأكل أموال الناس بالباطل، ويخادع الله ورسوله وما يخادع إلا نفسه، لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه) [الزواجرعن اقتراف الكبائر] .
وقال الغزالي : (والغش حرام في البيوع والصنائع جميعًا، ولا ينبغي أن يتهاون الصانع بعمله على وجه لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه، بل ينبغي أن يحسن الصنعة، ويحكمها ثم يبيِّن عيبها إن كان فيها عيب، فبذلك يتخلص) [إحياءعلوم الدين] .
من أنواع الغش وصوره :
1- الغش في البيع والشراء وغيرها من المعاملات المالية :
كأن يَحصُل الشخص على المال بطرق محرمة، إمَّا عن طريق الكذب، أو كتمان عيب السلعة، أو البخس في ثمنها، أو التطفيف في وزنها، أو خلط الجيِّد بالرديء، وغيرها من الطرق المحرمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال : ((ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال أصابته السماء يا رسول الله، قال : أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني)) .
قال ابن حجر الهيتمي مبينًا هذا النوع من الغش في البيع والشراء : (الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع، أو مشتر فيها شيئًا، لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل) [الزواجرعن اقتراف الكبائر] .
2- الغش في القول :
وذلك عند إدلاء الشاهد بالشهادة، فيشهد بشهادة فيها زور وبهتان وكذب، ونحو ذلك .
3- عدم الوفاء بالعقود :
كالعقود التي تعمل في الإنشاءات والمقاولات، وغيرها من المعاملات التي أبرمت فيها العقود، فعدم الوفاء بها يعتبر من الغش المحرم، والله سبحانه يأمر بالوفاء وعدم الغش حيث يقول : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ " [المائدة: 1] .
4- ومن صور الغش أيضًا : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الإنكار على الأصحاب والأقارب محاباة لهم ومداهنة .
فحق هؤلاء على المسلم أن ينصحهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإن لم يفعل فقد غشهم .
من الأسباب المؤدية إلى الغش :
هناك أسباب كثيرة تحمل الإنسان أن يغش ومن هذه الأسباب :
1- ضعف الإيمان بالله، وقلة الخوف منه .
2- جهل الفرد بحرمة الغش، وأنه من الكبائر .
3- عدم الإخلاص لله في العمل .
4- شدة الحرص، وطلب الأموال من أي طريق كان .
5- عدم تطبيق الأحكام لمعاقبة مرتكبي جريمة الغش .
من الأسباب المعينة على ترك الغش :
1- الابتهال والتضرع إلى الله بالدعاء بأن يغنيه الله بحلاله عن حرامه .
2- إخلاص العمل لله جل وعلا .
3- تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
4- تربية الفرد تربية سليمة قائمة على الالتزام بأحكام الشرع وآدابه .
5- تقوية الثقة بالله، واستشعار مراقبته .
6- زيارة القبور وتذكر الموت واليوم الآخر .
7- الصبر في تحصيل الرزق الحلال بالوسائل المباحة .