(77)
أحاديث ترغب في الجنة
أما الأحاديث الدالة على الترغيب في الجنة ورغبة عباد الله الصالحين فيها، فهي كثيرة، نذكر شيئا منها.
فمنها حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق بر سلي، أن أرجعه، بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا،ثم أقتل). [اللؤلؤ والمرجان، فيما اتفق عليه الشيخان (ص: 491) رقم الحديث: 1229. جمع محمد فؤاد عبد الباقي]
في هذا الحديث عدة دلالات:
أولاها: أن الرجل إذا خرج للجهاد في سبيل الله، لا يخرجه إلا إيمان بالله وتصديق برسله-أي إنه مخلص لله في خروجه-فإنه قد يجمع الله له بين الأجر والغنيمة، إذا قدر له الرجوع إلى أهله، وأن الغنيمة التي كتبها الله له لا تنافي إخلاصه ولا تنقص من أجره، وذكر الأجر فيه تشويق للجهاد في سبيل الله، وليس فيه منافاة للإخلاص الذي ذكر معناه في أول الحديث (لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق بر سلي).
ثانيتها: فيه وعد لمن كانت تلك حاله أن يدخله الله الجنة إذا استشهد في سبيل الله. وفي ذلك ترغيب للمجاهد بذلك الوعد، ولو كان ينافي الإخلاص لما رغب فيه.
ثالثتها: تعقيب الرسول صلى الله عليه وسلم على وعد الله هذا، بتمنيه أن تتكرر حياته و يتكرر قتله في سبيل الله، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه إن هذا الوعد من الله يستحق العناية والحرص، ليناله المجاهد في سبيل الله.
وكما أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم تمنيه تكرار الحياة والشهادة في سبيل الله، فقد أخبر أن الذي يدخل الجنة من المؤمنين لا يحب مفارقتها ليرجع إلى الدنيا، لما رأى فيها من النعيم الذي لا يطمع في سواه، ماعدا الشهيد، فإنه لعظم ما رأى من الكرامة على استشهاده يحب أن يرجع إلى الدنيا ليذوق طعم تكرار الشهادة في سبيل الله.
ففي حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة). [المصدر السابق (ص 492) رقم الحديث: 1232]
فإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه الكرامة في الآخرة وهو يحثهم بها على الجهاد في سبيل الله واضح الدلالة على تشويقهم إلى الجنة، ولو كان ذلك ينافي الإخلاص لما شوقهم هذا التشويق.
بل إن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعجل الشهادة في سبيل الله-وهو في وسط حلبة القتال من أجل أن يدخل الجنة في تلك اللحظة، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك ينافي الإخلاص لما أقره على ذلك.
كما في حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال (في الجنة)، فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل. [نفس المصدر (ص 495) رقم الحديث: 1241]
هذا وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته الجنة-مرغبا لهم فيها بالعمل الصالح، كما وصف النار محذرا لهم بها من العمل السيئ-وما ذلك إلا من أجل الرجاء والخوف، الذين هما من صفات عباد الله الصالحين، كما مضى.
فقد روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). فاقرؤوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}. السجدة: 17. [المصدر السابق (ص 794) رقم الحديث: 1797.والآية ذكر منها إلى قوله {قرة أعين) وقد أكملتها لما في آخرها من كون ذلك جزاء بعملهم، وذلك دليل على عدم منافاته للإخلاص]
وأحاديث أخرى تحذر من النار
وذكر صلى الله عليه وسلم الجنة والنار، في كلمتين جامعتين للترغيب في الجنة بتعاطي الأعمال الصالحة ولو كرهتها النفس، وللتحذير من النار التي تكون الشهوات المغرية بالمعاصي سببا في دخولها.
ففي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره). [نفس المصدر (ص 794) رقم الحديث: 1797. ومعنى الحديث أنه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكروه، ولا يوصل إلى النار إلا بارتكاب الشهوات]
(78)
الحق أحق أن يتبع
فهل يجوز بعد الاطلاع على هذه النصوص، من القرآن والسنة الصحيحة الدالة دلالة واضحة، على أن الله تعالى تعبد خلقه-تعبدا-بخشيته والخوف منه، وبخشية عقابه في اليوم الآخر، والخوف من النار، كما تعبدهم برجائه، ورجاء ثوابه ومغفرته وجنته، وأن عباده الصالحين من الأنبياء والرسل ومن تبعهم عبدوا الله بذلك، هل يجوز بعد هذا أن يقال: (ما عبدته خوفا من ناره، ولا حبا لجنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبا له، وشوقا إليه)؟ أو يقال
تعظيم الأمر والنهي، لا خوفا من العقوبة. ولا طلبا للمثوبة..)؟!
إن غاية ما يمكن أن يعتذر به لمن قال هذه العبارات وأمثالها أنهم أرادوا الخير -وهو هنا الاجتهاد في الإخلاص لله تعالى، والتجرد من شوائب حظوظ النفس غير المشروعة، ولكنهم بالغوا في ذلك مبالغة أنستهم ما دلت عليه هذه النصوص، فأدخلوا حظوظ النفس المشروعة التي تعبدها الله بها، في حظوظها غير المشروعة، وهذا اجتهاد أخطئوا فيه، نسأل الله أن يغفر لهم خطأهم، ويثيبهم على اجتهادهم.
لكن ذلك لا يسوغ لمن اطلع على هذه النصوص وغيرها مما في معناها أن يقلدهم فيما ذهبوا إليه فالحق أحق أن يتبع، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.
(79)
تعليق العلماء على هذه العبارات
قال ابن تيمية، رحمه الله
ومن قال من هؤلاء: لم أعبدك شوقا إلى جنتك، ولا خوفا من نارك، فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات، والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات، وهذا قصور وتقصير منهم، في فهم مسمى الجنة، بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة، والنظر إليه هو من الجنة، ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته، قال: (إني أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ،فقال: (حولها ندندن) [مجموع الفتاوى (10/240)]
وقال في موضع آخر: (وقد علم بالاضطرار أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين والنبيين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبا، أو مستحبا، وطريق أولياء الله التي يسلكونها، لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات، إذ ما سوى ذلك محرم أو مكروه أو مباح، لا منفعة فيه في الدين). [نفس المرجع (10/714)]
وقال ابن القيم، رحمه الله-معلقا على قول الهروي رحمه الله: (الرجاء أضعف منازل المريدين...)-: (شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم، صلى الله عليه وسلم، فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محا مله، ثم نبين ما فيه.)، وبعد أن جمل كلامه على أحسن محا مله، قال: (فأما قوله: الرجاء أضعف منازل المريدين، فليس كذلك، بل هو من اجل منازلهم وأعلاها وأشرفها، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله، وقد مدح الله تعالى أهله، وأثنى عليهم). فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. الأحزاب: 21.
وفي الحديث الصحيح الإلهي، عن النبي صلى الله عليه وسلم-فيما يروي عن ربه عز وجل-: (يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي ..)-إلى أن قال-: (وبالجملة فالرجاء ضروري للمريد السالك، والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد، فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله ومنزلة يرجو وصوله إليها، ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها، فكيف يكون الرجاء من اضعف منازله وهذا حاله)؟!.. [مدارج السالكين باختصار شديد (2/37) وما بعدها]
وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله- ردا على من زعم منافاة قصد الجزاء على الأعمال الصالحة للإخلاص-
فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا، فإن كان أخرويا فقد أثبته الشرع، حسبما تقدم. وإذا ثبت شرعا، فطلبه من حيث أثبته صحيح، إذ لم يتعد ما حده الشارع، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره، ولا قصد مخالفته، إذ قد فهم من الشارع، حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال، فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي. وذلك غير قادح في إخلاصه، لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله، لا ما قصد به غيره، لأنه عز وجل يقول: {إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم} الصافات: 40-43.
فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص-ومعنى كونه مخلصا لا يشرك معه في العبادة غيره-فهذا قد عمل على وفق ذلك، وطلَبُ الحظ ليس بشرك، إذ لا يعبد الحظ نفسه، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب، وهو الله تعالى، لكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد، فهذا هو الذي أشرك، حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل. والله لا يقبل عملا فيه شرك. وليست مسألتنا من هذا. فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي، في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى، فذلك باعث له على الإخلاص قوي، لعلمه أن غيره لا يملك ذلك..) [الموافقات (2/215) وما بعدها]
هذا هو الأثر الأول الذي ترتب على تلك العبارة وما أشبهها، وهو مخالفتها لنصوص القرآن والسنة، وهو واضح، وقد تبين ما يمكن أن يعتذر به لأصحابها، مع عدم جواز تقليدهم في ذلك.
(80)
أما الأثر الثاني الخطير المترتب على تلك العبارة الفاسدة: أن بعض المنتسبين إلى الإسلام، ممن كانوا قبل دخولهم في الإسلام ينكرون اليوم الآخر، ولم يهتموا بالتفقه في الدين على من هو أهل لتفقيههم فيه، فهموا من هذه العبارات غير مراد أصحابها-وهو المبالغة في إخلاص العمل لله تعالى من شوائب حظوظ النفس، حتى ولو كانت هي الرغبة في الفوز بالجنة والخوف من عذاب النار، كما سبق-فحملوا تلك العبارات على معنى أنه لا يوجد يوم آخر، وليس هناك جنة ولا نار، وأن الذي يعمل العمل الصالح رغبة في دخول الجنة فهو عبد شهواني، لم يعبد الله وإنما عبد شهواته، كرغبته في النساء الجميلات ذات العيون الواسعة-يقصد الحور العين-وشرب الخمر، وغيرها، وأن خشية الله، ليس معناها الخوف من أنه يعاقبنا، كما يخاف المذنب من الضرب.
هذا الفهم هو الذي يعتقده/أوربي مشهور/ [هو بروفيسور: رجاء جارودي] أعلن إسلامه، وسُرَّ به المسلمون، لأنه مفكر عالمي، له اطلاع واسع على الفلسفات القديمة والحديثة، وكان ماركسيا.
وعندما قابلته حاورته في هذا الموضوع، وقد سمعت أنه ينكر الإيمان باليوم الآخر، وكنت أظن أنه يبالغ في معنى الإخلاص، كما بالغت في ذلك رابعة العدوية وغيرها، ولكن عندما ذكرت له كثرة الآيات الواردة في الإيمان باليوم الآخر، قال: هذا تمثيل وخيال، وليس بحقيقة، فليست هناك جنة ولا نار، والله ليس عنده يوم أول ويوم آخر، والجنة المذكورة في القرآن المقصود بها السعادة التي تحصل في القلب في الدنيا عندما يعمل المؤمن خيرا، والنار المذكورة في القرآن هي القلق النفسي الذي يحصل في قلب العاصي في الدنيا.
بعد نقاش طويل قال: لقد اختلفت مع محمد الغزالي وشيخ الأزهر، في هذه المسألة، وإذا صح أنه يوجد يوم آخر وتوجد جنة ونار،فليدخلوا هم الجنة وهو-أي جار ودي-يدخل النار. قال هذا مبالغة في إنكار الإيمان باليوم الآخر واحتج على صحة اعتقاده هذا بما أورده الغزالي في (إحياء علوم الدين) عن/رابعة العدوية/وغيرها، ورفض رفضا باتا التسليم لآيات القرآن الكريم بالمعنى الذي فهمته الأمة الإسلامية كلها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن.
وكان يهزأ بعلماء الإسلام الذين يثبتون الإيمان باليوم الآخر، ويرى أنهم لا يفهمون حقيقة المعنى الذي أراده الله في القرآن، وقال: كلام الله لا يجوز أن نفهمه فهما أدبيا ظاهريا، وإنما نفهم روح معانيه، وضرب مثالا للفهم الأدبي الظاهري، وهو ما فهمه بعض الصحابة من قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود}، فقد فهم الصحابي الخيط على حقيقته، وهو فهم أدبي ظاهري غير صحيح، وقاس الرجل فهم الأمة الإسلامية لمعنى اليوم الآخر على هذا المثال، وأكد أن المقصود مجرد التمثيل وليس الحقيقة التي فهمها علماء المسلمين، وقال:إن/نابليون/كان ملحدا وثنيا، ولكنه كان يقول: إذا وجد شعبٌ لا توجد عدالة اجتماعية فيه وناس يشكون ويتألمون من الظلم، فيجب أن يقال لهم: إنه يوجد عالَمٌ آخر، ستكون فيه التعويضات وأداء الحقوق، حتى يهدءوا.
والظاهر أنه يقصد من ذلك مقولة الشيوعيين-وكان هو منهم ولا زال يحمل بعض أفكارهم-: إن الرأسماليين يستعملون الدين لتخدير الشعوب، حتى لا تطالب بحقوقها، بل تخضع للظلم في الدنيا، لتنال الجزاء في الآخرة.
(81)
تنبيهات مهمة
التنبيه الأول: أن هذا الرجل ما زال يحمل معه بعض الفلسفات المنافية للإسلام، ومنها هذا الاعتقاد الفاسد في اليوم الآخر-وذكر لي المترجم أنه أيضا لا يؤمن بالملائكة، ولكن الوقت ضاق فلم أستطع الدخول معه في النقاش حولهم-.
التنبيه الثاني: أنه استند في اعتقاده هذا على تلك العبارات التي صدرت عن بعض العلماء الذين بالغوا في معنى الإخلاص، حتى جعلوا ما تعبدنا الله به من الطمع في ثوابه والخوف من عقابه، من الشوائب وحظوظ النفس المنافية للإخلاص، فكانت تلك العبارات-مع مخالفتها لنصوص القرآن والسنة-فتنة لأمثال هذا الرجل، ولذا يجب الحرص على عدم إطلاق العبارات المخالفة للنصوص الشرعية والتمسك دائما بمنهج القرآن والسنة، وما جرى عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وبخاصة في أمور الإيمان.
لتنبيه الثالث: الواجب على من دخل في الإسلام-مهما كانت ثقافته ومنزلته الاجتماعية-أن يأخذ مبادئ الإسلام على يد علمائه، ولا يكتفي بما فهمه هو عن الإسلام، قبل الدخول في الإسلام أو بعده، لأن هذا دين جاء به وحي، وله معان ومصطلحات يفهمها علماؤه، وليس للجاهل به أن يفسره على حسب هواه ويخلط ما في هذا الدين بما في غيره من الأديان والفلسفات الأخرى، ليأتي بدين جديد ليس هو دين الإسلام حقيقة، وهذا ما حصل من هذا الرجل.
(82)
إطراء الداخل في الإسلام يفتنه
ويجب على المسلمين تفقيه الداخلين في الإسلام، وعدم إطرائهم، لما في ذلك من فتنتهم.
ولقد كان من أسباب فتنة هذا الرجل وغروره بذلك الفهم الفاسد، وسخريته بالعلماء الذين أرادوا أن يصححوا له إيمانه، كان من أسباب ذلك أن بعض المؤسسات الإسلامية وبعض أجهزة الإعلام، أسرعت في الإشادة به والثناء عليه، ووصفه بالمفكر الإسلامي، ودعوته إلى إلقاء محاضرات عن الإسلام، وهو حديث عهد بالإسلام، فذاع صيته، وأصبح يظن هو بنفسه أنه شيخ الإسلام، وهل لشيخ الإسلام من حاجة إلى من يعلمه الإسلام؟!
إن الذي يدخل في الإسلام يحتاج أن يدرس-بالطريقة التي تناسب موقعه من الاحترام-مبادئ الإسلام التي يدرسها أبناؤنا في المدارس الابتدائية، وليس ذلك بِغَضٍّ من حقه ولا تنقص من مقامه، بل هو من العناية به والحرص على مصلحته ليفهم دين الله على حقيقته، ولا ينبغي أن يتسرع المسلمون مع الداخلين في الإسلام هذا التسرع الذي يؤدي إلى هذه النتيجة غير المحمودة.
فقد كان زعماء القبائل الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه أركان الإسلام وكيفية الصلاة وبعض الفرائض، ثم يعودون ليعلموا أهلهم، ولنتأمل كيف سيكون إسلام من يدخل في الإسلام على يد أمثال من هذه عقيدته في الإيمان بالغيب [راجع فيما يتعلق بموضوع/رجاء جار ودي/كتابنا (حوارات مع مسلمين أوربيين من: ص: 195-214) فقد التقيته في باريس بتاريخ 23 محرم سنة 1408 هـ-16/9/1987 م. ولا أريد هنا مناقشة حكم إسلامه. ولكن القاعدة أن من أنكر حكما معلوما من الدين بالضرورة، كتحريم الزنى، يكفر إذا قامت عليه الحجة، فكيف بمن أنكر ركنا من أركان الدين، وأقيمت عليه الحجة، واستمر على جحوده ؟!]
(83)
حكم من أنكر ركنا من أركان الإيمان
أما الحكم على من أنكر ركنا من أركان الإيمان أومن أركان الإسلام، فليس بخاف على صغار طلبة العلم أنه يكون مرتدا، إذا كان من المسلمين،بل إن من أنكر حكما من أحكام الإسلام معلوما من الدين بالضرورة، كتحريم الربا، أو الخمر، أو الزنى، فإنه يكون مرتدا، فكيف بمن أنكر ركنا من أركان الإيمان؟!
ولو كان المنكر لركن من أركان الإيمان، أو غيره من أحكام الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة حديث عهد بإسلام، ولم تقم عليه الحجة من نصوص القرآن والسنة، من قِبَل عالم من علماء الإسلام لَقِيل: ينبغي التريث في الحكم عليه حتى تقام عليه الحجة، أما أن يكون كبار علماء الإسلام قد وضحوا له الحق بدليله، ثم يصر على إنكاره ويزيد على ذلك السخرية والاستهزاء بهم، ويصرح بأنه لو صح أنهم على الحق وهو على الباطل، بأن ثبت أنه يوجد يوم آخر وتوجد جنة ونار، فإنه يؤثر هؤلاء العلماء بالجنة، ويختار هو دخول النار، فإن هذا إنكار جحود واستكبار.
واستدلاله بهذه الشبهة المخالفة لنصوص الكتاب والسنة، ما هو إلا مجرد تَتُرُّس بها، لتسويغ إنكاره، لصدورها من علماء مسلمين، ومع أنهم لم يقصدوا ما ذهب إليه من الإنكار كما مضى، فإنه ينسب إليهم ما ذهب إليه من إنكار اليوم الآخر، فقد نسب إلى الإمام الغزالي إنكار اليوم الآخر، وهو منه براء، فهو-الغزالي-بعد أن حكى قول رابعة العدوية وغيرها في كتابه/إحياء علوم الدين/، عقب على ذلك بما يأتي: (وما أرادوا بهذا إلا إيثار لذة القلب في معرفة الله تعالى على لذة الأكل والشرب والنكاح فإن الجنة معدن تمتع الحواس، فأما القلب فلذته في لقاء الله فقط). [إحياء علوم الدين (4/311).
وقوله: (فإن الجنة معدن تمتع الحواس، غير مسلم، بل هي معدن النعيم الكامل، ويدخل في ذلك: رضا الله الذي يذكر الله به عباده بعد أن يستقروا في الجنة، كما روى أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضوا ني فلا أسخط عليكم بعده أبدا. مسلم (4/2176) كما يدخل في ذلك رؤيتهم ربهم التي لا تكون إلا في الجنة.
فليست الجنة معدن تمتع الحواس فقط، كما ذكر الغزالي رحمه الله، وقد ذكر هو نفسه ذلك من أصناف نعيم أهل الجنة، في كتابه المذكور (4/543) وهذه هي شبهة من بالغ في معنى الإخلاص فأطلق ما أطلق من تلك العبارات المخالفة لنصوص الكتاب والسنة، وسبق رد ابن تيمية على هذا الزعم.راجع (ص 105-106)]
ولقد تكلم الغزالي، رحمه الله كلاما طويلا جميلا في صفة جهنم والتحذير منها، وفي صفة الجنة والتشويق إليها، في كتابه المذكور، وقال-وهو يصف الجنة-: (ومهما أردت أن تعرف صفة الجنة، فاقرأ القرآن، فليس وراء بيان الله تعالى بيان). [إحياء علوم الدين (4/536)، وقد بدأ الكلام على صفة جهنم.. ثم أتبعه بصفة الجنة من ص: 530-547 من نفس الجزء المذكور] فأين هو إنكار الغزالي لليوم الآخر الذي يدعيه هذا الرجل؟!
لقد أطلت في هذا المبحث، لأهميته والحاجة إلى التنبه إلى هذه الشبهة الشيطانية التي كان من نتائجها هذا الاستدلال الأعوج.
(84)
عوامل الإخلاص:
وما دام قصد الإخلاص هو السبب في إطلاق هذه العبارات، التي ترتبت عليها تلك الآثار الفاسدة-غير المقصودة، إن شاء الله من قائليها-فلا بد من بيان موجز للعوامل التي تعين على الإخلاص لله تعالى في الأعمال، حتى يتقبلها الله، ويرضى عن صاحبها، ويثيبه عليها، ويتلخص هذا البيان في الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن يعلم المؤمن أن منزلة الإخلاص، منزلة عظيمة يجب الحرص على تحقيقها في كل أعماله.
ولهذا جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، حاضة على الإخلاص بصيغ كثيرة متنوعة:
من ذلك أن الله تعالى قرن أمره بالعبادة عامة- بدنية، وقلبية، ومالية-بالإخلاص، وبين أن ذلك هو الدين القيم، فقال:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}. البينة: 5.
ومن ذلك أنه تعالى أمر عابديه أن يخلصوا له الدين، و حصر الدين الذي له-وهو الدين الذي شرعه لعباده ويقبله منهم ولا يقبل غيره-في الدين الخالص، أي النقي الصافي من شوائب الشرك الأصغر، ومنه الرياء، والشرك الأكبر، فقال تعالى مخاطبا نبيه، صلى الله عليه وسلم-والأصل في خطابه دخول أمته فيه-:
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص}. الزمر:1-2.
ومن ذلك أنه تعالى، جعل العمل الصالح -وهو ماقصدبه وجهه، وجرى على هدي نبيه صلى الله عليه وسلم-الذي يحقق رجاء لقاء الله، ما خلا من الشرك، قال تعالى:{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}. الكهف: 110.
ومن ذلك رده تعالى على اليهود والنصارى في دعواهم أنه لا يدخل الجنة غيرهم، فقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. البقرة: 112.ومثلها قوله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا}. النساء: 125.
وإسلام الوجه لله لا يكون إلا بالاستسلام الكامل لله الخالص من شوائب الشرك به.
وقد سميت السورة القصيرة التي اشتملت على وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ونفت عنه الشرك بكل أنواعه، سميت بسورة الإخلاص، وهي تعدل ثلث القرآن الكريم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، [روى الحديث البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه. جامع الأصول(8/485)] وهي: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}.وكل الآيات الآمرة بالتوحيد، أو العبادة لله، أو طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، هي آمرة بالإخلاص لله تعالى، لأن الله لا يقبل أي عمل إلا إذا كان خالصا له.
(85)
وأما الأحاديث، فهي-أيضا-كثيرة، وبأساليب متنوعة:
فأولها الإخلاص في قول كلمة التوحيد، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لقد ظننت يا أبا هريرة، أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولَ منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه، أو نفسه). [البخاري، رقم: 99 (1/193) بشرح فتح الباري]
ومنها ما دل على أن الأعمال لا تقبل عند الله إلا بالنية. والمراد أن يقصد العامل بعبادته المعينة وجه الله تعالى، كحديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه). [متفق عليه (رياض الصالحين، رقم 1 ص: 4) تحقيق/رباح والدقاق]
ولوضوح دلالة هذا الحديث على وجوب الإخلاص، افتتح به كثير من المؤلفين في الحديث كتبهم، كما فعل الإمام البخاري، رحمه الله في كتابه: الصحيح، وكما فعل النووي في رياض الصالحين.
ومنها ما صرح الله تعالى فيه بأن إشراك غيره تعالى معه في العمل يبطل ذلك العمل، ويترتب عليه أن يترك الله العامل وعمله، ومن تركه الله، فقد خسر خسرانا مبينا، ففي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: قال الله تعالى (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا، أشرك معي فيه غيري، تركتهوشركه). [مسلم (وهو في رياض الصالحين رقم: 1614 ص:619)]
ويورد المفسرون هذا الحديث وما أشبهه عند تفسير آية الكهف السابقة:{فمن كان يرجو لقاء ربه} الآية.
وقد سئل عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قيل له
أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، فقال عبادة: {ليس له شيء! إن الله يقول: (أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه) . وحذر صلى الله عليه وسلم الأمة من الشرك الخفي، وهو الرياء. [راجع تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (3/108)]
ومنها ما دل على أن من عمل عملا فقد فيه الإخلاص، دخل النار، وهو يفسر معنى قول الله تعالى: (تركته وشركه) كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك، حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم ، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها، إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار) [مسلم، وهو في (رياض الصالحين (رقم 1615، ص: 219)]
ومنها ما دل على أن فاقد الإخلاص الذي يعمل العمل ليراه الناس كذلك، أو يقول القول، ليسمع الناس ذلك،-يعني يرائي الناس بأعماله وأقواله-أن الله تعالى يفضحه يوم القيامة على رءوس الأشهاد، فيبين للناس، أنه لم يكن يقصد بأعماله وأقواله التي رأوها أو سمعوها وجه الله وإنما كان يحب الرياء والسمعة عند الناس، كما في حديث عبد الله بن سفيان، رضي الله عنه، قال قال النبي صلى الله عليه وسلم
من سَمَّع سَمَّع الله به ومن يرائي يرائي الله به). [متفق عليه وهو في (رياض الصالحين، رقم: 1617، ص: 620)]
ولهذه المنزلة العظيمة للإخلاص في دين الله اهتم به عباد الله الصالحون، اهتماما عظيما، حرصا على قبول الله أعمالهم، وعدم إحباطها، وقد بالغ بعضهم في ذلك، حتى أطلقوا تلك العبارات الفاسدة، وإن كان قصدهم حسنا.
فهذه النصوص الدالة على منزلة الإخلاص العظيمة وغيرها، إذا تذكرها المؤمن أعانه تذكرها على معالجة نفسه، وأعانه الله تعالى على الإخلاص له.
(86)
تذكر أن النافع الضار هو الله وحده
ذلك هو الأمر الأول الدال على منزلة الإخلاص العظيمة عند الله تعالى، وهو يقتضي حرص عباد الله الصالحين على اتخاذ الأسباب التي تجعلهم يحافظون عليه، ويبتعدون عن إرادة غير الله بأعمالهم.
الأمر الثاني: أن المؤمن يجب أن يتذكر، وهو يعمل العمل أن الله تعالى وحده هو الذي ينفعه ويضره، في الدنيا والآخرة، وأن الناس كلهم، لا يقدر أحد على أن ينفعه ولا يضره، إلا إذا كان الله تعالى، قد قدر ذلك له أو عليه، فلا يغنيه أحد من فقر، ولا يشفيه أحد من مرض، ولا يمنحه أحد جاها ولا منصبا، إلا إذا كان الله قد أذن في ذلك، كما فال تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله، يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}. يونس: 107
ولو فرض أن أحدا نفع آخر بشيء فهو إنما نفعه بما أقدره الله عليه، ولا يليق بالعبد الذي أجرى الله نفعه على يد بعض خلقه أن ينسى الخالق الذي أجرى النفع على يد المخلوق، ويتعلق بالمخلوق، الذي لولا إقدار الخالق له على ذلك النفع لكان عاجزا عن نفع نفسه فضلا عن نفع غيره.
ثم إن المخلوق إذا قضى حاجة آخر بما أقدره الله-فالغالب أنه لا يقضي حاجته، إلا لغرض نفع نفسه هو، وقد يكون نفعه الذي يريده فيه مضرة على من قضى حاجته.
وقد أشار ابن القيم، رحمه الله إلى هذا المعنى-وهو حرص الناس على قضاء حاجاتهم ولو كان في ذلك ضرر على غيرهم-بقوله
ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك، وإن كان ذلك ضررا عليك، فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها، فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك، وهذا لو تدبره العاقل، علم أنه عداوة، فهم يريدون أن يصيروك كالكير، ينفخ بطنك، ويعصر أضلاعك، في نفعهم ومصالحهم، بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزرون الشاة....) [طريق الهجرتين (ص:108)]. هذا هو شأن المخلوقين مع من يعمل من أجلهم.
أما الله تعالى الذي يخلص له العبد، فإنه يسبغ نعمه التي لا تعد على عبده، وهو غني عنه، كما قال تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. الذاريات: 55-57
فإن كان يقصد من التفاته إلى غير الله في عمله، المدح والثناء، فقد لبس بذلك ثوب زور، ليس له بساتر، فقد يكشف الله للناس عورته في الدنيا، وإن ستره فيها فضحه في الآخرة يوم تبلى السرائر، وقد سبق حديث أبي هريرة في الثلاثة الذين يسحبون على وجوههم في النار، وهم قارئ القرآن، والذي استشهد في المعركة والغني الذي أنفق ماله، وقد ادَّعوا كاذبين أنهم فعلوا ذلك ابتغاء وجه الله.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المدح الجميل هو مدح الله للعبد، وليس مدح الناس الذي قد يكون مدحا على منكر، وقد يكون مدحا كاذبا، فقد روى البراء بن عازب في قول الله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}.الحجرات:4، أن رجلا قام فقال: يا رسول الله، إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله) [الترمذي (5/387-388) وقال: هذا حديث حسن غريب]. أي هو الذي مدحه زين، وذمه شين.
وكما أن الرجل ينبغي له أن يتجنب محبة المدح والثناء عليه، محافظة على إخلاصه لربه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد حذر المداحين من الإطراء،كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: سمع النبي،صلى الله عليه وسلم، رجلا، يثني على رجل ويطريه في المدحة، فقال: (أهلكتم، أو قطعتم ظهر الرجل). [متفق عليه، وهو في رياض الصالحين (رقم:1786 ص:673)]
وأَمَر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحثوا التراب في وجوه المداحين، كما روى همام بن الحارث، عن المقداد، رضي الله عنه أن رجلا جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد، فجثاعلى ركبتيه، فجعل يحثوفي وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب). [ مسلم، وهو في رياض الصالحين (رقم:1788 ص:674)]. وإذا كان المقداد قد حثا التراب في وجه من مدح الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فمن هو الذي يستحق المدح والإطراء، ولا يستحق مادحه أن يُحثى في وجهه التراب؟.
فتذكر المؤمن هذا المعنى، يعينه على الإخلاص لله.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت خلف النبي، صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا) [أحمد والترمذي، وإسناده صحيح، رياض الصالحين، رقم: 62 ص: 42)].
(87)
ذكر المؤمن ربه في كل أعماله
ذلك هو الأمر الثاني الذي يعين صاحبه –إذا تذكره- على الإخلاص، وهو أنه لا ينفع أحدا ولا يضره إلا الله، فلا يليق بالعبد المؤمن أن يقصد بعمله من لا ينفعه ولا يضره من الخلق.
الأمر الثالث: أن يجاهد المؤمن نفسه بذكر ربه في كل أحيانه، وبخاصة في أوقات أدائه العبادة له تعالى، سواء أكانت فرضا أم نفلا، بل لو قصد الثواب على فعل المباح أو تركه، فلا بد أن يذكر الله تعالى ذكرا، يجعله يخلص عمله له، ولا ينظر إلى ما سواه، وقد ورد هذا المعنى، أي ذكر الله بصفة عامة، كما ورد مع كل عبادة على حدة، كالصلاة، والصيام، والحج، وغيرها، بل ورد حتى في الأعمال المباحة التي قد يظن كثير من الناس أن لا صلة لها بالعبادة ولا بالإخلاص.
وجاء الحث العام على ذكره تعالى، في آيات وأحاديث كثيرة، والذي يتأمل هذا الموضوع حق التأمل، يدرك منه أن الله تعالى يريد من عبده أن يكون في عبادة دائمة لربه، بفعل الواجبات، والمندوبات، وترك المحرمات، والمكروهات، وفعل المباحات وتركها، حسب المصلحة التي تقربه إلى الله بالفعل أو الترك، وهذه هي الأحكام التكليفية الخمسة التي لا تخرج عنها أفعال المكلفين، ويدل على ذلك قول الحق جل جلاله: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. الأنعام: 162.
هذه الآية تقتضي أن تكون حركات المؤمن وسكنا ته كلها لربه تعالى، وهذه هي الحياة السعيدة التي يريدها الله لعباده.
ترغيب القرآن في الإكثار من الذكر المطلق:
فقد حث القرآن الكريم المؤمن على الإكثار من ذكر الله المطلق، غير المقيد بزمان أو مكان، ليكون المؤمن على صلة بربه في كل الأحوال، وهو أهم عامل من عوامل الإخلاص لله تعالى.
قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. الأحزاب: 21.
وقال تعالى:{والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما}.الأحزاب: 35.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا}. الأحزاب: 41.
وقال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}. آل عمران: 190-191.
هذه الآيات وردت بالحض على الذكر الكثير المطلق من الزمان والمكان، بمعنى أن يكثر المؤمن من ذكر الله في كل الأوقات، وهذا غير ما ورد في القرآن من ألفاظ بمعنى الذكر، وليست بلفظه، كالتسبيح والتحميد والتكبير، وغيرها، وهي كثيرة.
ترغيب السنة في الإكثار من الذكر المطلق:
وقد جاءت السنة كالقرآن مرغبة في الإكثار من الذكر المطلق، غير المقيد كذلك بزمان أو مكان .
من ذلك: حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت). [البخاري، وهو في رياض الصالحين، برقم 1432، ص: 541)]
ومن ذلك حديث أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم). [متفق عليه، وهو في (رياض الصالحين، برقم 1433، ص: 541)]
ومن ذلك حديثه-أيضا-، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون) قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال: {الذاكرون الله كثيرا والذاكرات} [مسلم، وهو في (رياض الصالحين، برقم: 1434، ص: 542)]
ومن ذلك حديث عبد الله بن بسر، رضي الله عنه، أن رجلا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: (لا يزال لسانك رطبا بذكر الله). [الترمذي، وقال: حديث حسن.وهو في (رياض الصالحين، برقم: 1436، ص: 542)]
إن المؤمن الذي يكثر من ذكر ربه في كل أوقاته-والذكر ليس المراد به مجرد تحريك اللسان، وإنما المراد به ما تواطأ عليه القلب واللسان معا، وقد يكون ذكر الله بالقلب فقط كأن يهم المؤمن بمعصية، أو بترك طاعة فيذكر الله في نفسه ذكر مراقبة وإجلال فيؤب إلى ربه-إن المؤمن الذي هذه حاله لابد أن يلازمه الإخلاص لربه، بمقدار ملازمته للذكر.
(88)
أذكار مقيدة بأزمنة، وأمكنة، وعبادات معينة تعين المؤمن على الإخلاص لله
إن الذي يطلع على الكتب التي جمعت في أبواب الذكر خاصة، سيجد نفسه مع ربه في كل زمان ومكان، فهو في كل عباداته يذكر الله.
فالصلاة يدخل المؤمن فيها بادئا بتعظيم الله
الله أكبر) وهو-لو استحضره المصلي في صلاته-عاصم له من مجردا لتفكير في الالتفات إلى غير الله، فالصلاة لله العظيم الأكبر، فمن ذا الذي يستحق أن يلتفت إليه غيره؟. ثم إن الصلاة كلها ذكر لله، ابتداء من دعاء الاستفتاح إلى أن يسلم المصلي، ما بين قراءة قرآن، وتكبير، وتسبيح، ودعاء في القيام والقعود، والركوع والسجود، والرفع والخفض، ألا يكفي المؤمن ذلك داعيا لأن يخلص لله صلاته، ولا يلتفت إلى سواه؟.
إن المؤمن الذي يلتفت إلى غير الله، وهو في صلاته، يؤدي فيها أذكارها بلسانه، لا يعتبر ذاكرا لربه في حقيقة الأمر، بل هو غافل عنه ذاكر لغيره.
وقد سمى الله تعالى صلاة الجمعة وخطبتيها ذكرا، وأمر المسلمين بترك البيع، لحضورها، وأذن لهم بعد ذلك بالانتشار في الأرض، لطلب الرزق ومزاولة البيع الذي أمرهم بتركه، وأمرهم مع ذلك بالإكثار من ذكره، كما قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}. الجمعة: 9-10.
و الحج يدخل فيه المؤمن بادئا بهذه الكلمة العظيمة: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، ويسن للحاج الاستمرار في هذه التلبية، حتى يقضي مناسكه، وهي كافية له في إخلاص أعمال الحج لربه تعالى، فكيف وهناك أذكار يشرع للحاج قولها، في طوافه وسعيه ووقوفه، وفي كل أوقاته،وكلها مذكرة بالله وبالإخلاص له.
والصوم أشار الله تعالى إلى ما يؤدي إليه، إذا صامه المؤمن إيمانا واحتسابا، وهو تقوى الله تعالى، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}. البقرة: 183.
وهل يكون متقيا لله في صيامه من أرد به غير الله؟ ثم إن الله تعالى ذكر أنه أنزل في هذا الشهر القرآن الكريم الذي يشرع للمؤمنين الإكثار من قراءته فيه كما قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان-إلى قوله تعالى-: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}. البقرة: 185
وكثير منهم يسمعون تلاوته من أئمتهم في صلاة التراويح في المساجد، وهم يبيتون نية الصيام في كل لياليه، ويذكرون الله عندما يتسحرون، وعندما يفطرون، ألا يكفي كل ذلك في إخلاص الصائم صومه لله؟
والزكاة ذكَّر الله تعالى عبده المؤمن الذي يخرجها أنه هو الذي فرضها عليه، وأتبع ذلك بذكر اسميه {العليم الحكيم}،كما قال تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}. التوبة: 60.
فالمؤمن الذي يذكر أن الزكاة فريضة من الله العليم الحكيم، ينبني على ذكره ذلك أمران:
الأول الامتثال بإخراج زكاة ماله.
والثاني: الإخلاص في إخراجها، وعدم مراعاة الناس.
والجهاد الذي قيد في عامة نصوص القرآن والسنة بـ (سبيل الله) يأمر الله القائمين به، وهم يواجهون عدوهم في المعركة بالثبات والإكثار من ذكر الله، تذكيرا لهم بذلك القيد (في سبيل الله)، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}. الأنفال: 45.
وعندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله). [متفق عليه، وهو في (رياض الصالحين، برقم: 8 ص: 7)]
إذًا، فما من عبادة شرعها الله إلا شرع فيها ذكره، ولا شك أن من حكم ذلك استحضار عظمته تعالى المؤدي إلى إخلاص العبادة له.
فإذا تتبعنا مواضع الذكر المشروع للمؤمن وجدنا الذكر يملأ وقته كله حتى مع الأعمال المباحة التي قد لا يخطر بالبال أن يؤمر عندها بالذكر، والمقام-هنا-لا يتسع لسرد الأحاديث في ذلك، فليس سردها من مقاصد هذا البحث، ولولا تلك الشبهة الفاسدة التي بناها القائلون بها على حرصهم على إرادة الإخلاص لله، ثم جاء من يبني عليها إنكار اليوم الآخر لما تعرضت لهذا الموضوع في هذا البحث لهذا سأشير إجمالا إلى بعض مواضع الذكر المشروع، بدون سرد الأحاديث الواردة فيها.
فقد وردت أذكار دبر الصلوات، وأذكار عند المشي إلى الصلاة، وأذكار عند دخول المسجد، وأذكار عند الخروج منه، وأذكار عند النوم، وأذكار عند القيام من النوم وأذكار في الصباح، وأذكار في المساء، وأذكار عند ركوب الدابة-ومثلها السيارة والطائرة والباخرة، وكل مركوب-، وأذكار عند السفر، وأذكار عند الرجوع من السفر، و أذكار عند تناول الطعام والشراب، وأذكار عند الفراغ منهما، بل لقد ورد الأمر بالذكر-وهو دعاء-عندما يريد الرجل إتيان أهله، وأذكار عند دخول بيت الخلاء، وأذكار عند الخروج منه، ومن أراد معرفة النصوص الواردة في هذه المواضع-وغيرها كثير-فليراجع كتب الأذكار المؤلفة في الذكر خاصة [منها على سبيل المثال: كتاب الأذكار للإمام النووي، وكتاب الكلم الطيب، لابن تيمية، وكتاب الوابل الصيب لابن القيم]، وهي كثيرة، أو كتب الأذكار التي عقدها علماء الحديث في الأمهات، كالأمهات الست وغيرها.