" التَّواضُــع "
التَّرغيب في التَّواضُع :
أولًا: في القرآن الكريم :
- قال الله تعالى : " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا " [الفرقان: 63] قال ابن القيِّم : (أي : سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبِّرين، قال الحسن : علماء حلماء. وقال محمَّد بن الحنفيَّة : أصحاب وقار وعفَّة، لا يسفِّهون، وإن سُفِه عليهم حلموا. والهَوْن -بالفتح- في اللُّغة: الرِّفق واللِّين، والهُون - بالضَّم - : الهَوَان فالمفتوح منه : صفة أهل الإيمان، والمضموم صفة أهل الكُفْران، وجزاؤهم مِن الله النِّيران) [مدارج السالكين] .
(وقال تعالى مخاطبًا رسوله، ممتنًّا عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمَّته المتَّبعين لأمره، التَّاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه، " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " [آل عمران: 159]) [تفسير القرآن العظيم] .
- كما أمره الله سبحانه وتعالى أن يلين جانبه للمؤمنين، وأن يتواضع لهم، فقال : " وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ " [الحجر: 88] .
قال القرطبيُّ في تفسير هذه الآية : (أي : أَلِن جانبك لمن آمن بك، وتواضعْ لهم) [الجامع لأحكام القرآن].
ثانيًا : في السُّنَّة النبوية :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما نقصت صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله)) [رواه مسلم] .
قال القاضي عياض في قوله صلى الله عليه وسلم ((وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله)) : (فيه وجهان : أحدهما : أنَّ الله تعالى يمنحه ذلك في الدُّنْيا جزاءً على تواضعه له، وأنَّ تواضعه يُثْبِتُ له في القلوب محبَّةً ومكانةً وعزَّةً.
والثَّاني : أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه) [إكمال المعلم شرح صحيح مسلم] .
- وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ)) [رواه مسلم] .
(يعني : أن يتواضع كلُّ واحد للآخر، ولا يترفَّع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان مِن عادة السَّلف رحمهم الله : أنَّ الإنسان منهم يجعل مَن هو أصغر منه مثل ابنه، ومَن هو أكبر مثل أبيه، ومَن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى ما هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى مَن هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى مَن هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحدٌ على أحد، وهذا مِن الأمور التي يجب على الإنسان أن يتَّصف بها، أي بالتَّواضُع لله عزَّ وجلَّ ولإخوانه مِن المسلمين) [شرح رياض الصالحين] .
أقوال السَّلف والعلماء في التَّواضُع :
- قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : (لا يبلغ عبدٌ ذُرَى الإيمان حتى يكون التَّواضُع أحبَّ إليه مِن الشَّرف، وما قلَّ مِن الدُّنْيا أحبَّ إليه ممَّا كَثُر، ويكون مَن أحبَّ وأبغض في الحقِّ سواء، يحكم للنَّاس كما يحكم لنفسه وأهل بيته) [رواه ابن المبارك فى الزهد] .
- و(سُئِل الفضيل بن عياض عن التَّواضُع، فقال : يخضع للحقِّ، وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله) [مدارج السالكين] .
- وقال ابن المبارك : (رأس التَّواضُع أن تضع نفسك عند مَن هو دونك في نعمة الدُّنْيا حتى تُعْلِمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمَّن هو فوقك في نعمة الدُّنْيا، حتى تُعْلِمه أنَّه ليس له بدنياه عليك فضل) [التواضع والخمول ،لابن أبى الدنيا] .
- وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال : (رأيت أمَّ الدَّرداء مع نساء المساكين جالسة ببيت المقدس) [التواضع والخمول ،لابن أبى الدنيا] .
- وقال قتادة : (مَن أُعْطِي مالًا أو جمالًا وثيابًا وعلمًا، ثمَّ لم يتواضع، كان عليه وبالًا يوم القيامة) [التواضع والخمول ،لابن أبى الدنيا] .
- وقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك : (أيُّ الرِّجال أفضل؟ قال: مَن تواضع عن رفعة، وزهد على قُدْرَة، وترك النُّصرة على قومه) [التواضع والخمول ،لابن أبى الدنيا] .
- وقال إبراهيم بن شيبان : (الشَّرف في التَّواضُع، والعزُّ في التَّقوى، والحرِّية في القناعة) [دارج السالكين] .
من فوائد التَّواضُع :
1- أنَّ التَّواضُع يرفع المرء قدرًا ويُعْظِم له خطرًا ويزيده نبلًا [روضة العقلاء] .
2- التَّواضُع يؤدِّي إلى الخضوع للحقِّ والانقياد له [الأخلاق الإسلامية ،لحسن المرسى-بتصرف] .
3- التَّواضُع هو عين العزِّ؛ لأنَّه طاعة لله ورجوع إلى الصَّواب [الأخلاق الإسلامية ،لحسن المرسى] .
4- يكفي المتواضع محبَّة عباد الله له، ورفع الله إيَّاه [الأخلاق الإسلامية ،لحسن المرسى] .
5- التَّواضُع فيه مصلحة الدِّين والدُّنْيا، ويزيل الشَّحناء بين النَّاس، ويريح مِن تعب المباهاة والمفاخرة [فتح البارى , بتصرف] .
أقسام التَّواضُع :
(التَّواضُع نوعان : أحدهما محمود، والآخر مذموم ، والتَّواضُع المحمود : ترك التَّطاول على عباد الله والإزراء بهم . والتَّواضُع المذموم : هو تواضع المرء لذي الدُّنْيا رغبةً في دنياه، فالعاقل يلزم مفارقة التَّواضُع المذموم على الأحوال كلِّها، ولا يفارق التَّواضُع المحمود على الجهات كلِّها) [روضة العقلاء] .
ذكر أبو إسماعيل الهرويُّ للتواضع ثلاث درجات، فقال :
(الدَّرجة الأولى : التَّواضُع للدِّين، وهو أن لا يعارِض بمعقولٍ منقولًا، ولا يتَّهم للدِّين دليلًا، ولا يرى إلى الخلاف سبيلًا) [مدارج السالكين]) .
من صور التَّواضُع :
- تواضع الإنسان في نفسه :
ويكون ذلك بألَّا يظنَّ أنَّه أعلم مِن غيره، أو أتقى مِن غيره، أو أكثر ورعًا مِن غيره، أو أكثر خشية لله مِن غيره، أو يظنُّ أنَّ هناك مَن هو شرٌّ منه، ولا يظنُّ أنَّه قد أخذ صكًّا بالغفران !! وآخر بدخول الجنَّة !! لأنَّ القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرَّحمن، يقلِّبها كيف يشاء، يقول الله تعالى : " وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " [الأنفال: 24] .
وقال أبو زيد : ما دام العبد يظنُّ أنَّ في الخَلْق مَن هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، فقيل له: فمتى يكون متواضعًا ؟ قال : إذا لم ير لنفسه مقامًا ولا حالًا .
ومِن التَّواضُع ألَّا يَعْظُم في عينك عملك، إن عملت خيرًا، أو تقرَّبت إلى الله تعالى بطاعة، فإنَّ العمل قد لا يُقْبَل، " إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " [المائدة: 27] ولهذا قال بعض السَّلف : لو أعلم أنَّ الله قبل منِّي تسبيحة لتمنَّيت أن أموت الآن !
ومِن ذلك : التَّواضُع عندما تسمع نصيحة، فإنَّ الشَّيطان يدعوك إلى ردِّها، وسوء الظَّنِّ بالنَّاصح؛ لأنَّ معنى النَّصيحة أنَّ أخاك يقول لك : إنَّ فيك مِن العيوب كيت وكيت .
أمَّا مَن عصمه الله تعالى فإنَّه إذا وجد مَن ينصحه ويدلُّه على عيوبه، قهر نفسه وقبل منه، ودعا له وشكره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، في تعريف الكِبْر : ((الكِبْر : بَطَر الحقِّ، وغمط النَّاس)) [رواه مسلم] .
يعني : ردُّ الحقِّ، وبخس النَّاس أشياءهم، فالمستكبر صاحب نفسيَّة متعاظمة لا يكاد يمدح أحدًا أو يذكره بخير، وإن احتاج إلى ذلك شفعه بذكر بعض عيوبه .
أمَّا إن سمع مَن يذكره ببعض عيوبه فهيهات أن ينصاع أو يلين، وما ذاك إلَّا لمركَّب النَّقص في نفسه، ولهذا كان مِن كمال الإنسان أن يقبل النَّقد والملاحظة بدون حساسيَّة أو انزعاج أو شعور بالخَجَل والضَّعف، وها هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحمل الرَّاية، ويرفع الشِّعار : رحم الله امرءًا أهدى إلينا عيوبنا [رواه الدارمى] .
- التَّواضُع مع النَّاس :
فالمسلم يخالط النَّاس ويدعوهم إلى الخير، وإلى الأخلاق الإسلاميَّة، ومِن طبيعة النَّاس أنَّهم لا يقبلون قول مَن يعظِّم نفسه ويحقرهم، ويرفع نفسه ويضعهم، وإن كان ما يقوله حقًّا، بل عليه أن يعرف أنَّ جميع ما عنده هو فضلٌ مِن الله، فالمسلم المتواضع هو الذي لا يعطي لنفسه حظًّا في كلامه مع الآخرين، ومِن تواضع المسلم مع النَّاس: أن يجالس كلَّ طبقات المجتمع، ويكلِّم كلًّا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء .
قال تعالى : " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا " [الكهف: 28] .
- تواضع الإنسان مع مَن هو دونه :
مِن التَّواضُع : التواضع مع من هو أقل منك، بل لا يُتصوَّر التواضع إلا مع من هو دونك، سواء في العلم أو الفهم أو المال أو الجاه ومن هو أصغر منك سنا وغير ذلك، بل إذا رأيت من وقع في معصية فلا تتعالى عليه وتعجب بنفسك وعملك، فربما كانت معصيته سببًا في توبة وإنابة، وذل وانكسار، وربما كان إعجاب الإنسان بعمله سببًا في حبوط عمله .
عن جندب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث : ((أنَّ رجلًا قال : والله لا يغفر الله لفلان ، وأنَّ الله تعالى قال : مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان ؟! فإنِّي قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)) [رواه مسلم] .
من الأسباب التي تعين على التَّواضُع :
1- تقوى الله :
وهذا مِن أوَّل الأمور والأسباب التي تعين المرء على التَّواضُع، وتردعه عن أخلاق أهل السَّفه والكِبْر؛ لأنَّ التَّقوى وقاية مِن كلِّ ما يغضب الله تعالى، وفعل جميع الطَّاعات التي أمر الله تعالى بها، فالكِبْر كبيرة مِن الكبائر، ولا يتَّصف بها أهل التَّقوى، والتَّواضُع مِن محاسن الأخلاق، ولابدَّ أنَّه يكون في أهل التَّقوى .
وهذا شيء يجب أن يكون مركوزًا في فطرة كلِّ إنسان، وخاصَّة إذا كان بالمرء تيه وعجب، عليه أن يعلم أنَّ الأيَّام دُوَل، يوم لك ويوم عليك، فلا ينبغي للعاقل أن يفرح بدنيا أقبلت عليه، ومِن ثَمَّ يشمخ بها، ويتعالى بنعم الله على عباد الله، والله يقول : " وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ " [آل عمران:140] فمَن تذكَّر دائمًا هذه السُّنَّة الكونيَّة خضع لإخوانه ولعامَّة النَّاس، وخفض جناحه لهم، لأنَّه ربَّما تقلَّبت به الدُّنْيا، فيذلُّ بعد أن كان عزيزًا، ويفتقر بعد أن كان غنيًّا، ويعلو عنه مَن كان يترفَّع عليه، فلِمَ الكِبْر والتِّيه والعجب ؟!
قال تعالى : " تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " [القصص: 83] .
2- عامل النَّاس بما تحبُّ أن يعاملوك به :
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المرء يحبُّ أن يتواضع له النَّاس، ويخفضوا جناحهم له، ويعاملوه برفق ولين، ويبغض -مِن ناحيةٍ أخرى- مَن يُغْلِظ له، ومَن يتكبَّر عليه بأي صورة مِن الصُّور .
ولو كان المرء جرابًا حُشِي كِبْرًا لتألَّم وتأفَّف -أيضًا- ممَّن يتكبَّر عليه، فلِمَ الكيل بمكيالين ؟!!
3- التَّفكُّر في أصل الإنسان [التواضع فى ضوء القرآن والسنة الصحيحة،لسليم الهلالى] :
إذا عرف الإنسان نفسه، علم أنَّه أذلُّ مِن كلِّ ذليل، ويكفيه نظرة في أصل وجوده بعد العدم مِن تراب، ثمَّ مِن نطفة خرجت مِن مخرج البول، ثمَّ مِن علقة، ثمَّ مِن مضغة، فقد صار شيئًا مذكورًا، بعد أن كان لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني شيئًا، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوَّته، وبفقره قبل غناه .
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا بقوله :
" مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ " [عبس: 18-19] .
ثمَّ امتنَّ عليه بقوله : " ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ " [عبس: 20] .
وبقوله : "فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا "[الإنسان: 2] .
لقد أحياه الله بعد موت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدُّنْيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه، وقوَّاه .
فمِن هذا بدايته، فأي وجه لتكبُّره وفخره وخيلائه ؟!
قال ابن حبَّان :
(وكيف لا يتواضع مَن خُلِق مِن نطفة مَذِرَة، وآخره يعود إلى جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة؟) . اهـ . [روضة العقلاء] .
نماذج مِن تواضع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم :
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمَّ التَّواضُع، لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ لأنَّه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه...)) [صححه الألبانى فى صحيح أبى داود] .
وقال له رجل : يا محمَّد، أيا سيِّدنا وابن سيِّدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله)) [صحح إسناده أحمد شاكر فى عمدة التفسير] .
- وكان صلى الله عليه وسلم مِن تواضعه، يتفقَّد أحوال أصحابه ويقوم بزيارتهم، فقد روى البخاريُّ في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال : ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكِر له صومي، فدخل علي فألقيت له وسادة مِن أَدَم حشوها ليف فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه، فقال أما يكفيك مِن كلِّ شهرٍ ثلاثة أيَّام ، قال : قلت : يا رسول الله ! قال : خمسًا ، قلت : يا رسول الله ! قال : سبعًا ، قلت : يا رسول الله ! قال : تسعًا ، قلت : يا رسول الله ! قال : إحدى عشرة ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : لا صوم فوق صوم داود -عليه السَّلام - شطر الدَّهر ، : صم يومًا وأفطر يومًا) [رواه البخارى ومسلم] .
نماذج مِن تواضع الصَّحابة رضوان الله عليهم :
تواضع الصِّدِّيق رضي الله عنه :
- (لما استُخلف أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السُّوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلمَّا بُويَع قالت جارية مِن الحي : الآن لا يحلب لنا، فقال : بلى لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألَّا يغيِّرني ما دخلت فيه) [التبصرة لابن الجوزى] .
- وكان يقول : (وددت أنِّي شعرة في جنب عبد مؤمن) [رواه أحمد فى الزهد] .
قال هذا وهو مِن المبشَّرين بالجنَّة، وهو الصِّدِّيق العظيم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته مِن بعده !!
تواضع عمر رضي الله عنه :
- عن طارق بن شهاب، قال : (خرج عمر بن الخطَّاب إلى الشَّام ومعنا أبو عبيدة بن الجرَّاح، فأَتَوا على مخاضة وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفَّيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين ! أنت تفعل هذا، تخلع خفَّيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة ؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك، فقال عمر : أوَّه، لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالًا لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله) [صححه الألبانى فى صحيح الترغيب] .
- عن أبي محذورة قال : (كنت جالسًا عند عمر رضي الله عنه، إذ جاء صفوان بن أميَّة بجَفْنَة (6) يحملها نفرٌ في عباءة، فوضعوها بين يدي عمر، فدعا عمر ناسًا مساكين وأرقَّاء مِن أرقَّاء النَّاس حوله، فأكلوا معه، ثمَّ قال عند ذلك: فعل الله بقوم، أو قال : لحى الله قومًا يرغبون عن أرقَّائهم أن يأكلوا معهم !! فقال صفوان: أما والله، ما نرغب عنهم، ولكنَّا نستأثر عليهم، لا نجد والله مِن الطَّعام الطَّيِّب ما نأكل ونطعمهم) [صحح اللبانى فى صحيح الأدب المفرد] .
تواضع عثمان رضي الله عنه :
قال الحسن : (رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه، فنقول : هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين) [التبصرة لابن الجوزى] .
عن ميمون بن مهران قال : (أخبرني الهمدانيُّ أنَّه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه على بغلة، وخلفه عليها غلامه نائل وهو خليفة) [الزهد ،لأحمد] .
تواضع علي رضي الله عنه :
- عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل منهم قال : (رُئِي على علي بن أبي طالب إزارٌ مرقوعٌ، فقيل له : تلبس المرقوع ؟! فقال : يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب) [الزهد ،لهناد بن السرى] .
- (وأنَّه رضي الله عنه قد اشترى لحمًا بدرهم، فحمله في ملحفته، فقيل له: نحمل عنك يا أمير المؤمنين. فقال: لا، أبو العيال أحقُّ أن يحمل) ( [إحياء علوم الدين] .
نماذج مِن تواضع السَّلف :
تواضع عمر بن عبد العزيز :
- (كان عند عمر بن عبد العزيز قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشي سراجه، فقام إليه فأصلحه، فقيل له:
يا أمير المؤمنين! ألا نكفيك؟ قال: وما ضرَّني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز) [سيرة عمر بن عبد العزيز ،لابن عبد الحكم] .
- (ونادى رجلٌ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: يا خليفة الله في الأرض! فقال له عمر: مه، إنِّي لما وُلِدت اختار لي أهلي اسمًا، فسمَّوْني عمر، فلو ناديتني : يا عمر، أجبتك. فلمَّا كَبِرْتُ اخترت لنفسي الكُنَى، فكُنِّيت بأبي حفص، فلو ناديتني : يا أبا حفص، أجبتك. فلمَّا ولَّيتموني أموركم سمَّيتموني أمير المؤمنين، فلو ناديتني : يا أمير المؤمنين؛ أجبتك. وأمَّا خليفة الله في الأرض، فلست كذلك، ولكن خلفاء الله في الأرض داود النَّبيُّ عليه السَّلام وشبهه، قال الله تبارك وتعالى : " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ "[ص: 26]) [سيرة عمر بن عبد العزيز ،لابن عبد الحكم] .
تواضع الإمام أحمد بن حنبل :
قال المروزيُّ : (لم أر الفقير في مجلس أعزَّ منه في مجلس أبي عبد الله؛ كان مائلًا إليهم مُقْصِرًا عن أهل الدُّنْيا، وكان فيه حِلْمٌ، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التَّواضُع، تعلوه السَّكينة والوَقَار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلَّم حتى يُسْأَل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدَّر) [سير أعلام النبلاء] .
وقال يحيى بن معين : (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل!! صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه مِن الخير) [سير أعلام النبلاء] .
نماذج مِن تواضع العلماء المتقدِّمين :
تواضع ابن تيمية :
قال البزَّار - وهو يذكر تواضع ابن تيمية - : (وأمَّا تواضعه : فما رأيت ولا سمعت بأحدٍ مِن أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصَّغير والجليل والحقير والغني الصَّالح والفقير، وكان يدني الفقير الصَّالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله مِن الأغنياء، حتى أنَّه ربَّما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبرًا لقلبه وتقرُّبًا بذلك إلى ربِّه .
وكان لا يسأم ممَّن يستفتيه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عَرِيكة(الطبيعة) ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه: كبيًرا كان أو صغيرًا، رجلًا أو امرأةً، حرًّا أو عبدًا، عالـمًا أو عامِّيًّا، حاضرًا أو باديًا، ولا يجبهه ولا يحرجه ولا ينفِّره بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرِّفه الخطأ مِن الصَّواب بلطف وانبساط، وكان يلزم التَّواضُع في حضوره مِن النَّاس، ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده، ومشيه ومجلسه ومجلس غيره .
" التَّــودُّد "
التَّرغيب في التَّودُّد :
أولًا : في القرآن الكريم :
- قال تعالى : " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " [فصلت: 34] .
قيل لابن عقيل : أسمع وصية الله عزَّ وجلَّ يقول :" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " وأسمع النَّاس يعدُّون من يُظهر خلاف ما يبطن منافقًا، فكيف لي بطاعة الله تعالى، والتَّخلُّص من النِّفاق ؟ فقال : النِّفاق هو : إظهار الجميل وإبطان القبيح، وإضمار الشَّر مع إظهار الخير لإيقاع الشَّر، والذي تضمنته الآية : إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن [غذاء الألباب فى شرح منظومة الآداب، للسفارينى] .
- وقال تعالى : " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " [الروم: 21] .
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا " يعني : المرأة هي من الرَّجل ، "لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا " أي : تستأنسوا بها ، " وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً " محبَّة، وَرَحْمَةً يعني : الولد [تفسير القرآن العزيز ، لابن أبى زمنين] .
وقال الطبري : وقوله : " وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً " يقول : جعل بينكم بالمصاهرة والخُتُونة، مَوَدَّة تتوادُّون بها، وتتواصلون من أجلها، وَرَحْمَةً رحمكم بها، فعطف بعضكم بذلك على بعض " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " [جامع البيان للطبرى] .
ثانيًا : في السُّنَّة النَّبويَّة :
- وعن معقل بن يسار رضي الله عنه، قال : ((جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إنِّي أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها ؟ قال : لا، ثم أتاه الثَّانية فنهاه، ثم أتاه الثَّالثة، فقال : تزوَّجوا الوَدُود الولود؛ فإنِّي مكاثر بكم الأمم)) [قال الألبانى فى صحيح أبى داود حسن صحيح] .
الوَلُود : كثيرة الولد، والوَدُود : الموْدُودَة، لما هي عليه من حسن الخلق، والتَّوَدُّد إلى الزَّوج [نيل الأوطار ، للشوكانى] .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ((أنَّ رجلًا قال : يا رسول الله ! إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأَحْلُم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنَّما تُسِفُّهم الملَّ ولا يزال معك من الله ظهير (9) عليهم ما دمت على ذلك)) [رواه مسلم] .
فأيَّده النَّبي صلى الله عليه وسلم على تودُّدِه إليهم، وإن لم يجد منهم مقابلًا لما يقوم به، إلَّا الإساءة إليه .
أقوال السَّلف والعلماء في التَّودُّد :
- قال الحسن : (التَّقدير نصف الكسب، والتَّودُّد نصف العقل، وحسن طلب الحاجة نصف العلم) [البيان والتبيين، للجاحظ] .
- وسئل الحسن عن حسن الخلق، فقال : (الكرم، والبذلة، والتَّودُّد إلى النَّاس) [الموشى ، للوشاء] .
- وعن ميمون بن مهران قال : (المروءة : طلاقة الوجه، والتَّودُّد إلى النَّاس، وقضاء الحوائج) [المروءة لابن الرزبان] .
من فوائد التَّودُّد إلى النَّاس :
1- التَّودُّد طريق موصل للحبِّ والألفة، مما يقوي روابط التَّقارب بين الأفراد، ويزيد اللُّحمة بينهم .
2- التَّودُّد وتقوية العلاقات بين النَّاس أساس لبناء مجتمع قوي مبني على الولاء والتَّناصر والتَّعاضد والتَّعاون .
3- التَّودُّد للنَّاس، وكسب محبتهم وثقتهم مدعاة لتقبل ما يطرح عليهم من أفكار أو ما يُدعون إليه بجهد أقل وبسهولة ويسر، ففرق بين التَّقبل من البشوش اللَّين المحبوب، ومن القاسي العابس الممقوت .
أنواع التَّودُّد إلى النَّاس :
التودد نوعان :
1- تودد محمود : وهو ما كان ناشئًا من محبة معتدلة لأهل الخير والصلاح .
2- تودد مذموم : وهو التودد إلى الكفار والظالمين وفسقة الناس .
موانع اكتساب التَّودُّد إلى النَّاس :
1- الكبر والخيلاء فهما من الصِّفات المنافية للتَّودُّد .
2- العبوس في وجوه النَّاس، فهو مانع لكسب وُدِّهم .
3- الغلظة في الكلام، وفظاظة العبارات، وفحش الألفاظ .
4- الشُّحُّ والبخل، مدعاة لمقت صاحبها، وتتنافى مع التَّودُّد للخَلْق .
وسائل معينة على التَّودُّد إلى النَّاس :
1- حسن الخلق مع البشْر فهو مفتاح قلوبهم، والباعث على مَوَدَّة صاحبه، وممهد له في قلوب النَّاس مكانًا .
قال أبو حاتم : (حسن الخلق بَذْر اكتساب المحبَّة، كما أنَّ سوء الخلق بَذْر استجلاب البغْضَة، ومن حَسُن خلقه صان عرضه، ومن ساء خلقه هتك عرضه؛ لأنَّ سوء الخلق يورث الضَّغائن، والضَّغائن إذا تمكَّنت في القلوب أورثت العداوة، والعداوة إذا ظهرت من غير صاحب الدِّين، أهوت صاحبها إلى النَّار، إلا أن يتداركه المولى بتفضُّلٍ منه وعفو) [رروضة العقلاء] .
2- التَّغافل عن الزلَّات، وعدم التَّوقف عند كلِّ خطأ أو كبوة يقع فيها الرَّفيق .
قال بعض الحكماء : (وجدت أكثر أمور الدُّنيا لا تجوز إلا بالتَّغافل) [أدب الدنيا والدين] .
3- البشَاشَة وطلاقة الوجه، والتَّبسُّم في وجوه النَّاس، مما يقذف الوُدَّ في قلوب البَشَر لصاحبها .
4- الرِّفق ولين الجانب، والأخذ باليُسر والسُّهولة في معاملة النَّاس .
5 - تفريج كرب الإخوان، والوقوف إلى جانبهم في الملمَّات والأحزان، ومواساتهم والإحسان لهم .
فعن سليمان مولى عبد الصَّمد بن علي : أنَّ المنصور -أمير المؤمنين- قال لابنه المهدي : (اعلم أنَّ رضاء النَّاس غاية لا تُدرك، فتحبَّبْ إليهم بالإحسان جهدك، وتودَّد إليهم بالإفضال، واقصد بإفضالك موضع الحاجة منهم) [روضة العقلاء] .
6- الزِّيارة والتَّواصل، والسُّؤال عن الإخوان، وتجنُّب الجفاء بين المتودِّد وبين من يطلب وُدَّه .
قال أديب : (الموَدَّة روح، والزِّيارة شخصها) [البصائر والذخائر] .
نماذج من حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم :
كان هذا الخُلَق واقعًا ملموسًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوَدَّد إلى أصحابه، ومن هم حوله، فمن ذلك :
- ما روته عائشة رضي الله عنها، من أنَّ رجلًا استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال : ((بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة. فلما جلس تطلَّق النَّبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرَّجل، قالت له عائشة : يا رسول الله ! حين رأيت الرَّجل، قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه، وانبسطت إليه . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة، متى عهدتني فحاشًا ؟ إنَّ شر النَّاس عند الله منزلة يوم القيامة، من تركه النَّاس اتقاء شرِّه)) [رواه البخارى ومسلم] .
قال ابن الجوزي : (هذا إنَّما فعله رسول الله على وجه المداراة، فسَنَّ ذلك لأمَّته، فيجوز أن يُستعمل مثل هذا في حق الشِّرِّير والظَّالم) [كشف المشكل من حديث الصحيحين] .
وقال ابن بطال : (المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للنَّاس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة وسلِّ السَّخيمة) [شرح صحيح البخارى] .
- ومن ذلك توَدُّده صلى الله عليه وسلم لمن حوله، بتبسُّمه في وجوه أصحابه، ودعائه لهم، فعن جرير رضي الله عنه، قال : ((ما حجبني النَّبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي، ولقد شكوت إليه أنِّي لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري، وقال : اللهمَّ ثبِّته، واجعله هاديًا مهديًّا)) [رواه البخارى ومسلم] .
- ومِنْ توَدُّده صلى الله عليه وسلم أنَّه ((كان يمرُّ بالصِّبيان فيسلم عليهم)) ([رواه البخارى ومسلم] .
نماذج من حياة الصَّحابة رضي الله عنهم :
- عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال : ((كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبًا، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل، حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدَّرداء : ونحن عنده، وفي رواية : أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : أما صاحبكم فقد غامر ،فسلَّم وقال : يا رسول الله! إنِّي كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيء، فأسرعت إليه ثمَّ ندمت ، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال : يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثًا)، ثمَّ إنَّ عمر ندم على ما كان منه، فأتى منزل أبي بكر، فسأل : أثمَّ أبا بكر ؟ فقالوا : لا ، فأتى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النَّبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر؛ حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، وقال : يا رسول الله ! والله أنا كنت أظلم (مرتين) فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم : كذبت، وقال أبو بكر : صدقت. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ (مرتين)، فما أوذي بعدها)) [رواه البخارى] .
ففي الحديث، السعي إلى استجلاب الوُدِّ من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وطلبه لإزالة الشَّحناء من قلب عمر تجاهه، رضوان الله عليهم أجمعين .
نماذج من العلماء والسَّلف :
- ابن قيِّم الجوزيَّة، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر :
قال ابن كثير في ترجمته : (وكان حَسن القراءة والخُلُق، كثير التَّوَدُّد، لا يحسد أحدًا، ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد) [البداية والنهاية] .
- ابن مالك، إمام العربية، أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله الطَّائي الجياني :
قيل في ترجمته : (وتقدَّم وساد في علم النَّحو والقراءات، ورَبَا على كثير ممَّن تقدَّمه في هذا الشَّأن، مع الدِّين والصِّدق، وحسن السَّمت، وكثرة النَّوافل، وكمال العقل والوقار، والـتَّوَدُّد، وانتفع به الطلبة) [مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لليافعى] .
- القاضي علاء الدين أبو الحسن علي التَّنوخي الدمشقي الحنبلي :
قيل في ترجمته : (كان رجلًا وافر العقل، حَسن الخلق، كثير التَّوَدُّد) [العبر فى خبر من غبر، للذهبى] .
- القاضي محمد بن إبراهيم بن إسحاق السلمي المناوي، ثم القاهري :
قيل في ترجمته : (كان كثير التَّودُّد إلى النَّاس، مُعَظَّمًا عند الخاص والعام، ومُحَبَّبًا إليهم) [إنباء الغمر بأبناء العمر ،لابن حجر] .
أقوالٌ وأمثالٌ في التَّودُّد :
- قيل لعبد الملك بن مروان : (ما أفدت في ملكك هذا ؟ قال : مَوَدَّة الرِّجال) [أدب الدنيا والدين] .
- وقال بعض الحكماء : (من علامة الإقبال اصطناع الرِّجال) [أدب الدنيا والدين] .
- وقال بعض البلغاء : (من استصلح عدوه، زاد في عدده، ومن استفسد صديقه، نقص من عدده) [أدب الدنيا والدين] .
- وروي عن لُقْمان أنَّه قال لابنه : (يا بنيَّ تَوَدَّدْ إلى النَّاس، فإنَّ التَّوَدُّد إليهم أمنٌ، ومعاداتهم خوفٌ) [نثر الدر فى المحاضرات ،للآبى] .
- وقال المنصور : (إذا أحببت المحمدة من النَّاس بلا مؤونة، فالْقَهم ببِشْر حَسَن) [الموشى= الظرف والظرفاء، للوشاء] .
- وقال بعض الظُّرفاء عن الظُّرف : (التَّوَدُّد إلى الإخوان، وكفُّ الأذى عن الجيران) [الموشى= الظرف والظرفاء، للوشاء] .
- وقال أبو شروان لوزيره بزرجمهر : (ما الشيء الذي يعز به السُّلطان؟ قال الطَّاعة، قال : فما سبب الطَّاعة، قال التَّوَدُّد إلى الخاصَّة والعامَّة) [مفيد العلوم ومبيد الهموم، للخوارزمى] .
- ويقال : (الأناة حُسْنٌ، والتَّودُّد يُمْنٌ) [لباب الآداب، لأسامة بن منقذ] .
" الجُود، والكَرَم، والسَّخاء، والبَذْل "
الترغيب في الجُود والكَرَم والسَّخاء والبذل :
أولًا : في القرآن الكريم :
قال تعالى : " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ " [الذَّاريات: 24-26] .
قال الطَّبري : عن مجاهدٍ، قوله : " ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ قال: أكرمهم إبراهيم، وأمر أهله لهم بالعجل حينئذٍ " [جامع البيان فى تفسير القرآن] .
قال الزجَّاج : (جاء في التَّفسير أنَّه لما أتته الملائكة أكرمهم بالعجل،وقيل : أكرمهم بأنَّه خدمهم، صلوات الله عليه وعليهم) [مفردات القرآن وإعرابه] .
- وقال تعالى : " مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " [البقرة: 261] .
قال ابن كثير : (هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لتضعيف الثَّواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأنَّ الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ) [تفسير القرآن العظيم] .
ثانيًا : في السُّنَّة النَّبويَّة :
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((دينارٌ أنفقته في سبيل الله ودينارٌ أنفقته في رقبةٍ، ودينارٌ تصدَّقت به على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)) [رواه مسلم] .
قال النَّوويُّ : (في هذا الحديث فوائد، منها : الابتداء في النَّفقة بالمذكور على هذا التَّرتيب، ومنها : أنَّ الحقوق والفضائل إذا تزاحمت، قُدِّم الأوكد فالأوكد، ومنها : أنَّ الأفضل في صدقة التَّطوع أن ينوِّعها في جهات الخير ووجوه البرِّ بحسب المصلحة، ولا ينحصر في جهةٍ بعينها) [شرح النووى على مسلم] .
- وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال : انتهيت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في ظلِّ الكعبة، فلمَّا رآني قال : ((هم الأخسرون وربِّ الكعبة، قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقارَّ (لم ألبث) أن قمت، فقلت : يا رسول الله ، فداك أبي وأمي، مَن هم ؟ قال : هم الأكثرون أموالًا ، إلَّا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا - مِن بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله - وقليلٌ ما هم، ما مِن صاحب إبلٍ، ولا بقرٍ، ولا غنمٍ لا يؤدِّي زكاتها إلَّا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلَّما نفدت أخراها، عادت عليه أولاها، حتى يُقْضَى بين النَّاس)) [رواه البخارى ومسلم] .
قال النَّوويُّ : (فيه الحثُّ على الصَّدقة في وجوه الخير) [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج] .
وقال المباركفوريُّ : (فقوله : ((قال هكذا)) الخ، كناية عن التَّصدُّق العام في جميع جهات الخير) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح] .
أقوال السَّلف والعلماء في الكَرَم والجُود والسَّخاء والبذل :
- قال أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه : (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار ،للزمخشرى] .
- وعنه رضي الله عنه : (الجُود حارس الأعراض) [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار ،للزمخشرى] .
- وقال عليٌّ رضي الله عنه : (السَّخاء ما كان ابتداءً، فأمَّا ما كان عن مسألة فحياء وتذمُّم) [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار ،للزمخشرى] .
- ورُوِي عنه مرفوعًا : ((الكَرَم أعطف مِن الرَّحم)) ([ربيع الأبرار ونصوص الأخيار ،للزمخشرى] .
- وقيل لحكيم : أيُّ فعلٍ للبَشَر أشبه بفعل الباري تعالى، فقال : الجُود [الذريعة إلى مكارم الشريعة للأصفهانى] .
- وقال يحيى البرمكي : (أعط مِن الدُّنْيا وهي مقبلة؛ فإنَّ ذلك لا ينقصك منها شيئًا، فكان الحسن بن سهل يتعجَّب مِن ذلك ويقول : لله درُّه ! ما أطبعه على الكَرَم وأعلمه بالدُّنْيا) [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار ،للزمخشرى] .
فوائد الكَرَم والجُود والسَّخاء والبذل :
1- الكَرَم والجُود والعطاء مِن كمال الإيمان وحُسْن الإسلام .
2- دليل حُسْن الظَّن بالله تعالى .
3- الكرامة في الدُّنْيا، ورفع الذِّكر في الآخرة .
4- الكريم محبوبٌ مِن الخالق الكريم، وقريبٌ مِن الخَلْق أجمعين .
5- الكريم قليل الأعداء والخصوم؛ لأنَّ خيره منشورٌ على العموم .
6- الكريم نفعه متعدٍّ غير مقصور .
7- تثمر حُسْن ثناء النَّاس عليه .
من صور الكَرَم والجُود والسَّخاء والبذل :
1- العطاء مِن المال، ومِن كلِّ ما يمتلك الإنسان مِن أشياء ينتفع بها، كالذَّهب والفضَّة، والخيل، والأنعام، والحرث، وكلِّ مأكول، أو مشروب، أو ملبوس، أو مركوب، أو مسكون، أو يؤوي إليه، وكلِّ آلة أو سبب أو وسيلة ينتفع بها، وكلِّ ما يُتَدَاوى به أو يقي ضرًّا أو يدفع بأسًا، إلى غير ذلك مِن أشياء يصعب إحصاؤها .
2- ومنها العطاء مِن العلم والمعرفة، وفي هذا المجال مَن يحبُّون العطاء، وفيه بخلاء ممسكون ضنينون، والمعطاء في هذا المجال هو الذي لا يدَّخر عنده علمًا ولا معرفة عمَّن يُحْسِن الانتفاع بذلك، والبخيل هو الذي يحتفظ بمعارفه وعلومه لنفسه، فلا ينفق منها لمستحقِّيها، ضنًّا بها ورغبةً بالاستئثار .
3- ومنها عطاء النَّصيحة، فالإنسان الجَوَاد، كريم النَّفس، لا يبخل على أخيه الإنسان بأيِّ نصيحةٍ تنفعه في دينه أو دنياه، بل يعطيه نُصْحَه الذي ينفعه مبتغيًا به وجه الله تعالى .
4- ومنها : العطاء مِن النَّفس، فالجواد يعطي مِن جاهه، ويعطي مِن عَطْفِه وحنانه، ويعطي مِن حلو كلامه وابتسامته وطلاقة وجهه، ويعطي مِن وقته وراحته، ويعطي مِن سمعه وإصغائه، ويعطي مِن حبِّه ورحمته، ويعطي مِن دعائه وشفاعته، وهكذا إلى سائر صور العطاء مِن النَّفس .
من الأسباب المعينة على الكَرَم والجُود والسَّخاء والبذل :
1- توفيق الله له بالبَذْل والنَّفقة .
2- نفسه الطيِّبة .
3- حبُّ عمل الخير .
نماذج مِن كرم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام :
إبراهيم الخليل عليه السَّلام :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كان أوَّل مَن أضاف الضَّيف إبراهيم)) [حسنه الألبانى فى صحيح الجامع] .
قال المناويُّ : (كان يسمَّى أبا الضِّيفان، كان يمشي الميل والميلين في طلب مَن يتغدَّى معه... وفي ((الكشَّاف)) : كان لا يتغدَّى إلَّا مع ضيف) [فيض القدير] .
نماذج مِن كرم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وجوده :
- عن موسى بن أنسٍ، عن أبيه، قال : ((ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه، قال : فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال : يا قوم أسلموا، فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة)) [رواه مسلم] .
- وقال أبو هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو كان لي مثل أحدٍ ذهبًا ما يسرُّني أن لا يمرَّ عليَّ ثلاثٌ، وعندي منه شيءٌ إلَّا شيءٌ أرصدُهُ لدينٍ)) [رواه البخارى] .
(إنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، يقدِّم بهذا النَّموذج المثالي للقدوة الحسنة، لاسيَّما حينما نلاحظ أنَّه كان في عطاءاته الفعليَّة، مطـبِّــقًا لهذه الصُّورة القوليَّة التي قالها، فقد كانت سعادته ومسرَّته عظيمتين حينما كان يبذل كلَّ ما عنده مِن مال .
ثمَّ إنَّه يربِّي المسلمين بقوله وعمله على خُلُق حبِّ العطاء، إذ يريهم مِن نفسه أجمل صورة للعطاء وأكملها) [الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن الميدانى] .
- وعن جبير بن مطعمٍ، أنَّه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه النَّاس، مقبلًا مِن حنينٍ، عَلِقَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سَمُرَةٍ، فَخطِفَتْ رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ((أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العِضَاهِ نَعَمًا، لقسمته بينكم، ثمَّ لا تجدوني بخيلًا، ولا كذوبًا، ولا جبانًا)) [رواه البخارى] .
نماذج مِن كرم الصَّحابة وجودهم :
- عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال : سمعت عمر بن الخطَّاب، يقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت : اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، قال : فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال : يا أبا بكرٍ ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله، قلت : لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا)) [حسنه الألبانى فى صحيح سنن أبى داود] .
- وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنَّه سمع أنس بن مالك، يقول : كان أبو طَلْحَة أكثر أنصاريٍّ بالمدينة مالًا، وكان أحبَّ أمواله إليه بيرحى ، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب مِن ماءٍ فيها طيِّبٍ، قال أنسٌ: فلمَّا نزلت هذه الآية : " لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ " [آل عمران: 92] قام أبو طَلْحَة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ الله يقول في كتابه : " لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ " وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحى، وإنَّها صدقةٌ لله، أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، قد سمعتُ ما قلتَ فيها، وإنِّي أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقسمها أبو طَلْحَة في أقاربه وبني عمِّه [رواه مسلم] .
- (وقيل : مَرِض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له : إنَّهم يستحيون ممَّا لك عليهم مِن الدَّيْن، فقال : أخزى الله مالًا يمنع الإخوان مِن الزِّيارة، ثمَّ أمر مناديًا فنادى : مَن كان عليه لقيس بن سعد حقٌّ فهو منه بريء، قال فانكسرت درجته بالعشي لكثرة مَن زاره وعاده) [إحياء علوم الدين] .
نماذج مِن السَّلف في الكَرَم والجُود :
- قال محمَّد بن صبيحٍ : (لما قدم أبو الزِّناد الكوفة على الصَّدقات، كلَّم رجلٌ حمَّاد بن أبي سليمان في رجلٍ يكلِّم له أبا الزِّناد، يستعين في بعض أعماله، فقال حمَّاد : كم يؤمِّل صاحبك مِن أبي الزِّناد أن يصيب معه ؟ قال : ألف درهمٍ، قال: فقد أمرت له بخمسة آلاف درهمٍ، ولا يبذل وجهي إليه، قال : جزاك الله خيرًا، فهذا أكثر ممَّا أمَّل ورجا. قال عثمان : وقال ابن السَّمَّاك : فكلَّمه آخر في ابنه أن يحوِّله مِن كتابٍ إلى كتاب، فقال للذي يكلِّمه : إنَّما نعطي المعلِّم ثلاثين كلَّ شهرٍ، وقد أجريناها لصاحبك مائة، دع الغلام مكانه) [الكرم والجود وسخاء النفوس ، للبرجلانى] .
- (وكان أبو مرثد أحد الكُرَماء، فمدحه بعض الشُّعراء، فقال للشَّاعر : والله ما عندي ما أعطيك، ولكن قدِّمني إلى القاضي وادَّع عليَّ بعشرة آلاف درهم حتى أقرَّ لك بها، ثمَّ احبسني، فإنَّ أهلي لا يتركوني محبوسًا. ففعل ذلك، فلم يُمْس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم، وأُخْرج أبو مرثد مِن الحبس) [إحياء علوم الدين] .
- وقال حمَّاد بن أبي حنيفة : (لم يكن بالكوفة أسخى على طعامٍ ومالٍ مِن حماَّد بن أبي سليمان، ومِن بعده خلف بن حوشبٍ) [الكرم والجود وسخاء النفوس ، للبرجلانى] .
- و(كان مورقٌ يتَّجر، فيصيب المال، فلا يأتي عليه جمعةٌ وعنده منه شيءٌ، وكان يأتي الأخ، فيعطيه الأربع مائةٍ والخمس مائةٍ ويقول : ضعها لنا عندك. ثمَّ يلقاه بعد فيقول : شأنك بها، لا حاجة لي فيها) [سير أعلام النبلاء] .
نماذج مِن العلماء المعاصرين في الكَرَم والجُود :
كرم الشَّيخ عبد العزيز بن باز :
لا يكاد يُعلم في زمان سماحة الشَّيخ أحدٌ أسخى ولا أجود ولا أَكْرَم مِن سماحة الشَّيخ عبد العزيز بن باز، وذلك في وجوه السَّخاء، وصوره المتعدِّدة، ومِن هذه الصُّور :
1- كان مجبولًا على حبِّ الضُّيوف، والرَّغبة في استضافتهم منذ صغره .
2- كان يوصي بشراء أحسن ما في السُّوق مِن الفاكهة، والتَّمر، والخضار، وسائر الأطعمة التي تقدَّم لضيوفه .
3- وكان يلحُّ إلحاحًا شديدًا إذا قَدِم عليه أحدٌ أو سلَّم عليه، فكان يلحُّ عليهم بأن يحِلُّوا ضيوفًا عنده على الغداء، والعشاء، والمبيت، ولو طالت مدَّة إقامتهم .
4- وكان يرغِّب القادمين إليه بأن يتواصلوا معه في الزِّيارة، فيذكِّرهم بفضل الزِّيارة، والمحبَّة في الله، ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك؛ ممَّا يبعثهم إلى مزيد مِن الزِّيارة؛ لأنَّ بعضهم لا يرغب في الإثقال على سماحة الشَّيخ وإضاعة وقته؛ فإذا سمع منه ذلك انبعث إلى مزيد مِن الزِّيارات .
أجواد أهل الإسلام :
قال ابن عبد ربِّه : (وأمَّا أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلًا في عصر واحد، لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم :
فأجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد : عبيد الله بن العبَّاس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص .
وأجواد البصرة خمسة في عصر واحد وهم : عبد الله بن عامر بن كريز، وعبيد الله ابن أبي بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم بن زياد، وعبيد الله بن معمر القرشي ثمَّ التَّيمي، وطَلْحَة الطَّلَحَات، وهو طَلْحَة بن عبد الله بن خلف الخزاعي .
وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد، وهم : عتَّاب بن ورقاء الرِّياحي، وأسماء بن خارجة الفَزَارِي، وعكرمة بن رِبْعِي الفيَّاض) [العقد الفريد ،لابن عبد ربه] .