۞بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ۞
۞ٱلْسَلآمّ ٍعَلْيّكَمُ وٍرٍحَمُةٌ اللَّــْـْہ ۆبُركَاته۞
۞أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ من
هَمْزِهِ،
ونَفْثِهِ،
ونَفْخِهِ۞
۞الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ۞
۞أَشْهَدُ أَنّ لَّا إِلَٰهَ إِلَّإ الله
وأَشْهَدُ ان محمداً رسول الله۞
۞تحية من عند الله طيبة مباركة۞
الوجه
وطريقنا -أعني كل مسلم ومسلمة - يجبُ أن تشيع الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي، وكل مسلم ومسلمة يحب الخير والبر والمعروف والإحسان ومكارم الأخلاق، أما القلوب فهي قلوبنا جميعا، فنحن بحاجة لفن التعامل مع بعضنا البعض، بحاجة إلى تعميق روابط الأخوة الإسلامية ومعانيها، نحن بحاجة -أيها الأحبة- إلى تحقيق القاعدة الشرعية (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كما في حديث أنس المتفق عليه.
بحاجة إلى الحوار الهادئ والتعامل المهذب والاحترام المتبادل إلى أن نظهر محاسن هذه العقيدة لنصبح نحن المسلمين قدوات لبعضنا، ومفاتيح خير لغيرنا من أهل الملل والنحل، بحاجة إلى أن نكسب قلوب بعضنا وأن نكسب قلوب أهل الأديان الأخرى بصدق التوحيد وحسن المعاملة وجميل الأخلاق لتذوق طعم الإيمان ولتعرف حقيقة الإسلام.
نريد أن نكسب القلوب ليس بالمجاملة ولا بالمداهنة ولا بتمييع ديننا ولا بتمزيقه ولا بالتنازل عن المبادئ والأهداف، وإنما بمكارم الأخلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والحديث عند أحمد في المسند.
ولماذا كسب القلوب؟ ليس من أجل الدنيا، ولا متاعها ولا زخرفها ولا من أجل أنفسنا وإظهار محاسنها وتواضعها، لا والله، بل ولا من أجل تملق الناس وطلب محامدهم وثنائهم؛
إنما من أجل ربنا تعبدا وتقربا، فإن الله يحب معالي الأخلاق، ويبغض سفسافها، واتباعا لحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم فقد كان أحسن الناس خلقا،
وكسب لحب وقرب نبينا يوم القيامة كما قال صلوات الله وسلامه عليه (إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا). حسنّه الترمذي.
وتطبيقا لتعاليم شرعنا وآداب ديننا قولا وعملا، وسرا وعلنا، فقد قال صلى الله عليه وسلم (وخالق الناس بخلق حسن).
وشوقا للجنان وتثقيلا للميزان يوم أن نلقى الله فقد قال صلى الله عليه وسلم (فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق) صححه الترمذي وقال غريب.
وما من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلقٍ حسن،
وتخلقا وتأدبا وإيمانا فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا.
والله عز وجل يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم ( ولو كنتَ فظاً غليظَ القلبِ لانفضوا من حولِك).
إذا فهذه الفضائل وأمثالها مما يحثنا ويشجعنا على اكتساب محاسن الأخلاق وتطبيع نفوسنا عليها، إخلاصا لوجه الله، وطلبا لرضاه فهي عبادة عظيمة وقربة من أجل القُربات فإن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم. كما في حديث عائشة وصححه الألباني *رحمه الله*.
إذا فهذا طريقنا للقلوب، هذا هو طريقنا للقلوب خططته لكثرة شكاية الناس بعضهم من بعض، فالزوج يشكو من سوء تعامل زوجه، والطالب يتظلم من أخلاق أستاذه، والموظف يتسخط من رئيسه ومديره، والمكفول يئن ويتوجع من سوء تصرف كفيله، حتى الصاحب لم يسلم من صاحبه وخليله.
فبحثت عن العلاج فكان هذا الموضوع. إذا فهو رسالة إلى كل مسلم ومسلمة، إلى كل الطيبين والطيبات، إلى كل المعلمين والمعلمات، إلى كل الأزواج، إلى كل موظف، إلى كل مسلم يسافر خارج البلاد إلى كل أحد يحب أن يرى الألفة والمحبة ترفرف على المجتمع الإسلامي.
* العقيدة والأخلاق :
للأخلاق صلة وثيقة بالإيمان والعقيدة، قال أبن القيم يرحمه الله (الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلقِ زاد عليك في الدين)، يقول صاحب رسالة جميلة بعنوان "صلة الأخلاق بالعقيدة والإيمان" يقول فيها ((إن المتمعن في أحوال الناس يجد كثيرا من المسلمين يغفل عن الاهتمام والاحتساب في هذا الجانب، وقد يجهل الصلة الوثيقة بين محاسن الأخلاق وقضية الإيمان والعقيدة، فبينما تجد الشخص يظن أنه قد حقق التوحيد ومحض الإيمان تراه منطويا على ركام من مساوئ الأخلاق والنقائص التي تخل بإيمانه الواجب أو تحرمه من الكمال المستحب، كالكبر والحسد وسوء الظن والكذب والفحش والأثرة وغير ذلك، وقد يكون مع ذلك جاهلا بضرر هذه الأمور على عقيدته وإيمانه أو غافلا عن شمولية هذا الدين لجميع مناحي الحياة، كما قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، إن تحقيق التوحيد -الكلام لا زال لصاحب الرسالة- إن تحقيق التوحيد وتكميل الإيمان ليس باجتناب الشرك الأكبر فحسب بل باجتناب كل ما ينافي العقيدة وكل ما يخل أو يقدح في كمال التوحيد والإيمان… إلى أخر كلامه هناك)).
إذا فليست العقيدة متون تردد، ونصوصا تحفظ بل لا بد أن تتحول إلى واقع عملي في الحياة، والتعامل بين الناس ولما حصل هذا التصور عند بعض الناس ظهر انفصام نكد وازدواجية بين مفهوم الإيمان ومقتضياته يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
* واقعنا ومكارم الأخلاق:
إن الناس اليوم في عرض الأرض وطولها بحاجة إلى من يقف معهم ويعينهم وإلى من يزيل عنهم الهم والقلق، إلى من يدلهم إلى طريق السعادة والراحة النفسية، بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة والأمان.
حتى وإن قامت الحضارات، وصنعت المخترعات، وتوالت الإنجازات فكل ذلك من أجل سعادة الإنسان وتكريمه، لكن مع الأسف البشرية اليوم تغرق في بحر الدنيا، يلهث الكثيرُ منهم وراء المال والتجارة، وراء الشهوات والملذات، وراء الرياسة والريادة بأي طريق وبأية صورة ومهما كان الثمن، المهم الوصول للمراد، وهذا هو الواقع الغالب على الناس اليوم -إلا ما شاء الله-.
في خضم هذا اللهثان وفي وسط هذا الإغراق يتلفت البعض ليبحث عن المثل وعن المبادئ وعن الأخلاق والآداب في صفوف الناس، ربما سمع عن التبشير وهو شعار أعلنه المنصرون وتسموا به بل وتمثلوه وللأسف.
يقول أحد الأخوة (في يوم من الأيام كنت أراجع طبيبا في أحد المستشفيات، وكنت أرى حسن تعامله وإظهار حرصه بالمريض وحالته، تبادر إلى ذهني أنه أحد المنصرين فقد كنت أقرأ وأسمع عن وسائلهم وأساليبهم، يقول: لكني قطعت هذا الخاطر أخذا بحسن الظن خاصة وأنه عربي، وفي بلد مسلم، لكني عرفت فيما بعد أنه يدين بالنصرانية وربما كان منصرا أو مبشرا كما يقولون) انتهى كلامه.
أيها الأخوة والأخوات:
أليس المسلمون أولى بهذه التسمي "التبشير"؟ وبهذه الأخلاق؟
ألم يقل الحق عز وجل (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)؟
ألم يقل صلى الله عليه وسلم (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)؟
ألسنا كمسلمين أولى بهذا التلطف والتودد للناس؟
ألسنا أولى بالتحلي بالأخلاق وبث الأمل في النفوس؟
لماذا هذا الجفاء والإعراض؟ وهذا التنفير والانقباض عند بعض المسلمين؟
لقد أثرت الماديات والحضارات على أخلاقنا وتعاملنا مع بعضنا بشكل كبير، حتى ظن البعض أنه لا يمكن الجمع بين التقدم الحضاري والكسب المادي وبين التحلي بالأخلاق والآداب، حتى قال أحدهم:
لإن كانت الدنيا أنالتك ثروةً*****وأصبحت منها بعد عسرٍ أخا يسرِ
لقد كشف الإثراء عنك خلائقا*****من اللؤم كانت تحت سترٍ من الفقرِ
فإننا لا نكاد نسمع عن ذي شرف أو تاجر أو منصب وقد تحلى ببعض الأخلاق والآداب إلا ويتذاكره الناس إطراء ومدحا وتعجبا أن يكون بمثل هذا المكان ويتمتع بمثل هذه الأخلاق.
أيها الأخوة:
إن من ينظر ويقرأ عن دين الإسلام خاصة في باب الآداب والأخلاق والمعاملات ليعجب أشد العجب من عظمة هذا الدين ودقة مراعاته للمشاعر والعواطف، وحرصه على نشر المحبة والمودة.
أسمعوا لهذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) صحيح عند أحمد، لماذا يأخذ بأنفه، وما علاقة الأنف بما صنع؟ إنها عظمة هذا الدين ودقة العناية بمشاعر النفس، والحفاظ على أحاسيسها، يأخذ بأنفه ليوهم من بجواره أن به رعافا فلا يفتضح أمره فيُحرج ويخجل.
قال الخطابي في بذل المجهود شرح سنن أبي داوود قال إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رعافا، وفي هذا الباب من الأخذ بالأدب في ستر العورة وإخفاء القبيح والتورية بما هو أحسن وليس داخلا في باب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء وطلب السلامة من الناس.
أرضى للناس جميعا مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعا كلهم أبناء جنسك
غير عدل أن توخى وحشة الناس بأنسك
فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسك
من ينظر للواقع يرى العجب في الإفلاس الأخلاقي الذي تعيشه كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم، بل هناك من انبهر بالحضارة الغربية فنقلها للمسلمين بقضها وقضيضها وإيجابها وسلبها، ونحن مع دعاة التقدم والحضارة في الاستفادة من التكنولوجيا والصناعة وكسب المهارات والخبرات، لكننا وعلى لسان كل مسلم صادق وغيور، لا وآلف لا لاستيراد العادات والتقاليد الغربية الانحلال الخلقي بإسم الحرية وحقوق المرأة، أما إقحام الفضيلة والستر والعفاف ومكارم الأخلاق في التقدم والتخلف المزعوم فخدعة مكشوفة لا تنطلي إلا على غافل ساذج في فكره دخل أو في قلبه مرض.
إن في أخلاقنا وآدابنا كمسلمين بل وعادتنا وتقاليدنا كعرب ما يملئ قلوبنا بالفخر والاعتزاز والرفعة والسيادة، فالله أختار لنا مقاما عزيزا ومكانا شريفا فقال جل وعز (وكذلك جعلناكم أمة وسطاء لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا)، فأسألكم بالله هل هذا المقام يناسب ما يفعله بعض الغافلين والغافلات من تشب وتقليدا بأهل الكفر والشرك في عاداتهم ولباسهم وسيئ أخلاقهم؟
فأنت أيها المسلم يجب أن تكون متبوعا لا تابعا، وقائدا لا منقادا بصفاء عقيدتك وثبات مبدئك، وتعاليم دينك السمحة، وحسن أخلاقك.
فلما لا نعتز بالشخصية الإسلامية؟
ولما لا نعلن للعالم كله أننا أهل دين وخُلق؟ وأن لنا صبغة خاصة تميزنا عن ما سوانا؟ هي (صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون).
* الأخلاق تصنع الأعاجيب :
إن النفس أيا كانت ومهما بلغت من الانحلال والفساد والتجبر والعناد فإن فيها خيرا كثيرا قد لا تراه العيون أول الأمر،
فقط شئ من العطف على أخطائهم،
شئ من الود الحقيقي لهم، شئ من لعناية به،
لنحاول - أيها الأخوة - تلمس الجانب الطيب في نفوسهم،
إبداءهم بالسلام، ابتسم لهم، أثني على الخير الذي فيهم،
وقبل ذلك كن صادقا ومخلصا غير متصنع ولا مجامل، عندها ستتفجر ينابيع الخير في نفوسهم، وسيمنحوك حبهم وثقتهم مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، لقد جرب ذلك كثيرا.
أذكر أنني قابلت أحد هؤلاء فسلمت وابتسمت وأثنيت على صفة طيبة فيه، وأنا صادق، فلن يعدم إنسان مزية حسنة تكون مفتاحا لقلبه، فأنكشف لي قلب لين رقيق سرعان ما سالت دمعات على وجه تلطخ بسواد المعصية والشهوة، وكان قد شكا جفاء بعض الناصحين وتعجلهم عليه.
أيها الأخوة، كم نخطئ عندما نحكم على الآخرين بمجرد النظر للظاهر، فهذا عمرو ابن العاص يحدث عن نفسه فيقول (لقد رأيتني وما أحد أشد بغض لرسول الله مني، ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته) وبعد أن أسلم وعرفه عن قرب انقلب الحال فقال ( وما كان أحد أحب إلي من رسول الله، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملئ عيني منه إجلالا له، ولو سألت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملئ عيني منه) كما في صحيح مسلم.
إننا نظلم أنفسنا ونظلم الآخرين عندما نحقد على هؤلاء ونتخوف منهم، والحل هو أن تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف على الآخرين، والصبر عليهم.
وباختصار إنها الأخلاق وفن التعامل مع الناس.
يا أهل القرآن، ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل ( وقولوا للناس حسنا)، ألم نقرأ قول الحق ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم). في الآية الأولى قولُ حسن، وفي الثانية أحسن.
فأين نحن من قول الحسن فضلا على قول أحسن الحسن.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الله كتب الإحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) كما في صحيح مسلم.
فإذا كانت الرحمة والإحسان تصل إلى هذه الدرجة من الرفق وحسن التعامل حتى مع الحيوان، فكيف بالرحمة والإحسان مع بني الإنسان؟
(( قال أحد الأخوة ( في موسم للأمطار وأنا على سيارتي مررت بغدير ماء لم أنتبه له، فتراشقت المياه على الجانبين، كان النصيب الأكبر منها لشباب جلسوا على عتبة أحد الأبواب، ويا ليت شعري لو رأيت حالهم قد تبدلت، فالثياب البيضاء كأنها سوداء، والشعرات السوداء خضبت بالطين والماء، فرجعت إليهم فلم أنتبه إلا على أصوات السب واللعان ومناداتي للرفس والطعان، يقول فرجعت إليهم مسلما معتذرا متأسفا، فيا سبحان مقلب القلوب، تحول السب واللعان إلى ترحيب وسلام، ودعوة إلى الطعام بل إلى إخاء ووئام) انتهى كلامه.
فيا أيها الأحبة، أقول باختصار إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب، نخطئ كثيرا عندما نعتزل بعض الناس لأننا نشعر أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أذكى منهم عقلا.
قال رجل لعبد الله ابن المبارك عظني، قال ابن المبارك (إذا خرجت من منزلك فلا يقعن بصرك على أحد إلا رأيت أنه خير منك)، وليس معنى هذا أن نتخلى عن مبادئنا ومُثلنا السامية، أو نتملق أو نجامل، لا ولكنها الحكمة والموعظة الحسنة وفن التعامل مع الآخرين.)) هذا مقتبسُ من رسالة بعنوان " أفراح الروح.
أيها المحب، أنظر لفن التعامل ومحاسن الأخلاق ماذا تفعل.
هذا عكرمة ابن أبي جهل ورث عداوة الإسلام عن أبيه وقاتل المسلمين في كل موطن، وتصدى لهم يوم فتح مكة ثم فر إلى اليمن، بعد أن أهد النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فتأتي زوجه أم حكيم بع إسلامها لرسول الله تطلب الأمان لزوجها فيقول لها - بابي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم ( هو آمن، ويقول لأصحابه يأتيكم عكرمة ابن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت، فيأتي عكرمة بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول عكرمة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وأنت أبر الناس وأصدق الناس، وأوفى الناس، أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالا في الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
لمسة حانية من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم نقلت أبن فرعون هذه الأمة إلى صف أولياء الرحمن، وجعلته يندم هذا الندم ويعزم هذا العزم، ويتحول هذا التحول. إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب.
* همسة في أذن موظف
أيها الموظف، أين كان موقعك، وفي أي مكان كنت
إنك لم تجلس على هذا الكرسي الذي أنت عليه إلا من أجل خدمة الناس، وقضاء حوائجهم وأداء الأمانة التي تحملتها، أفلا ترى أنك بحسن الاستقبال والابتسامة وإظهار الاهتمام بالمراجع وحاجته تملك قلوب الآخرين حتى وإن لم تقضي حاجتهم، وربما خرجوا من عندك بنفس راضية ولسان يلهج بالثناء والدعاء بل ربما أثنوا عليك ورفعوا ذكرك بكل مجلس، كل هذا وأنت لم تقضي حاجتهم، بل ملكتهم بحسن الأخلاق، فكيف لو استطعت قضاء حاجتهم وتيسير أمرهم.
أيها الحبيب، أنظر إلى هذه النتيجة التي وصلت إليها كسبت القلوب، والذكر الحسن، وقبل ذلك كله كسبت رضاء الله تعالى عز وجل،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم ( ابتسامتك في وجه أخيك صدقة)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم (والكلمة الطيبة صدقة)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم (من كان في حاجة أخي كان الله في حاجته)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم (خير الناس أنفعهم للناس).
إذا فأنت أيها الموظف في عبادة وأنت على مكتبك، فقط استعن بالله وأخلص النية الله، وأتصف بمكارم الأخلاق، وأحرص على نفع الناس وستجد التوفيق في الدنيا والآخرة. ذكر حسن وجميل وحب وتقدير هذا في الدنيا، وأجر كبير من العليم الخبير في الآخرة، كل هذا من خلال عملك ووظيفتك، أجر وغنيمة والموفق من وفقه الله.
وربما قلت الناس لا يرضيهم غلا تلبية رغباتهم، وتنفيذ ما يريدون، بل ربما قلت أن ميزان الناس اليوم في الحكم على الآخرين هو مصالحهم الشخصية، فأقول لك نعم هذه هو واقع الحال، ونحن لا نبرأ أنفسنا ولكن أخي الحبيب هب أنك بذلت لهم ما استطعت وتخلقت معهم بأحسن الأخلاق ولم يرضوا عنك، أليس حسبك أن يرضى الله عنك، فإنه يعلم أنك قدمت وبذلت ما بوسعك، إذا فأجرك على الله.
وإن لم يرضى الناس فتذكر دائما أن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس. فأحرص على فضائل الأخلاق وفن التعامل مع لناس فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ( خياركم أحاسنكم أخلاقا ) كما في البخاري ومسلم.
يا من رزقه الله مكانة ووجاهة اعلم أن زكاتها الشفاعة والإعانة للمحتاجين على أن لا يبخس بها حق الآخرين، فإن الشفاعات من أعظم العبادات إذا قصد بها وجه الله.
كتب الحسن ابن سهل كتاب شفاعة فجعل الرجل يشكره، فقال الحسن يا هذا علاما تشكرنا إنا نرى الشفاعات زكاة مروءتنا، ثم أنشد يقول:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ……. وزكاة جاهي أن أعين وأشفع
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ……. فأجهد بوسعك كله أن تنفع
* همسة إلى المعلمين والمعلمات
أيها المعلمون والمعلمات، ( إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير)، كما في الترمذي.
( ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)،كما في صحيح مسلم.
وإني لأظنك أيها المعلم وأنتي أيتها المعلمة من معلمي الناس الخير، وممن يدعو إلى الهدى، فأنتم تجلسون الساعات بل الأيام والشهور والسنوات مع أولاد وبنات المسلمين، ولله در ابن المبارك وهو يقول (نحن إلى قليل من الأدب، أحوج منا إلى كثير من العلم)، وأفضل وأيسر وأحسن طريق عرفته في التعليم هو التواضع وفن التعامل ومكارم الأخلاق مع الطلاب والطالبات، ولا يستطيعه إلا من رزقه الله الإخلاص بعلمه وتعليمه، نسأل الله الكريم من فضله.
احترام الطلاب والطالبات وإشعارهم بالحب والاهتمام بمشاكلهم وهمومهم والتجاوز عن أخطائهم والابتسامة والصبر والرفق بالتوجيه مع قوة المادة العلمية، كلها من علامات الشخصية الناجحة للمعلم والمعلمة.
أما الشدة وكتم الأنفاس وشد الأعصاب ورفض المناقشة والتمسك بالرأي وعدم التنازل عنه بحجة قوة الشخصية أمام الطلاب والطالبات فهي أوهام لا تزيد الطين إلا بله. فإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف كما في صحيح مسلم.
أيها المعلمون والمعلمات، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من يحرم الرفق يحرم الخير كله) كما في صحيح مسلم، والقلوب التي تجلس أمامكم كل نهار مهما بلغت من الغفلة والقسوة فهي أحوج مل تكون إلى الرفق والعطف، فإن الرفق وحسن الأخلاق واللمسات الحانية والكلمات العذبة مفاتيح عجيبة في التأثير والتوجيه، فكم عبرة أجهشتها ودمعت أسالتها، ولكنه - وأقوله مرة وثالثة وعاشرة- الإخلاص لله، فمن يؤته فقد أوتي خيرا كثيرا، فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة واللبيب بالإشارة يفهم.
…………………………………….
* هل يمكننا تغيير أخلاقنا
ربما يقول البعض لقد شببت على الشيء فلا أستطيع أن أغير أخلاقي، وهناك من يرى أن الأخلاق ثابتة في الإنسان لا تتغير فهي غرائز فطر عليها، وطبائع جبل عليها، وهناك من يرى أنها تتغير فليس ذلك صعبا ولا مستحيلا.
والحق أن الأخلاق على نوعين:
فمنها ما هو غريزي فطري ومنها ما يكتسب بالممارسة والمجاهدة، ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ، ولما قال الله عز وجل (قد افلح من تزكى)، وقال (قد أفلح من زكاها)، ولما قال صلى الله عليه وسلام (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتوقى الشر يوقه).
ومن نظر إلى الحيوان وحاله قبل التدريب وبعده أدرك أن الأخلاق عند الإنسان سعلة التغيير لمن رزق الهمة والعزيمة، وحمل نفسه على مكارم الأخلاق وفضائلها.
وجه (2)
يقول ابن حزم رحمه الله متحدثا عن تجربته مع نفسه وعن محاولاته في التخلص من عيوبه وعن النتائج التي حصل عليها من جراء ذلك يقول ( كانت في عيوب فلم أزل بالرياضة والإطلاع على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس أعاني مداواتها حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بالأمور هو الإقرار بها -أي الإقرار بالعيوب- ليتعظ بذلك متعظ يوما إن شاء الله)
ثم أخذ رحمه الله يعدد بعض العيوب في نفسه، ولولا خشية الإطالة لذكرتها لعظيم الفائدة، من أرادها فلينظر في كتابه " الأخلاق والسير في مداواة النفوس ".
ثم قال ومنها - أي العيوب - حقد مفرط قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره، وغلبته على إظهار جميع نتائجه وأما قطعه البتة فلم أقدر عليه، وأعجزني أن أصادق من عادني عداوة صحيحة أبدا. انتهى كلامه يرحمه الله.
ويقول أحد الأخوة (وقع في قلبي شيء عظيم على أحد أخواني لخير أعطاه الله إياه، فما زال الشيطان بي ونفسي الضعيفة وكنت أهتم وأغتم وأكثر التفكير والخواطر خاصة وأنني كنت متهيئا لهذا الخير الذي آتاه الله أكثر منه.
يقول فما زلت مع نفسي أدفع الخواطر والأفكار الرديئة تارة، و أُنبها تارة، وأذكّرها بفضل سلامة الصدر وتمني الخير للآخرين، وأني أحب لهم ما أحب لنفسي تارة أخرى. وتارة أذكّرها بخطر الحسد وأضراره وما زلت أستعين بالله وأدعوه حتى انتصرت عل نفسي واستطعت ترويضها، وما زلت مع نفسي بكثيرٍ من هذه المواقف حتى وجدت أنها اعتادت على سلامة الصدر وحسن الظن بالآخرين وتمني الخير لهم. عندها شعرت بسعادة ولذة عجيبة وأقبلت على شئوني وأعمالي بقلب سليم، وفتح الله علي بأمور كثيرة فتحا عجيبا ولله الحمد والمنة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.) انتهى كلامه.
إذا فلا بد من رياضة النفس وتدريبها أيها الأحبة، وذلك بالمجاهدة والصبر وقوة الملاحظة والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام وطلب النصح من الآخرين ونحو ذلك مما يعين على تغيير الأخلاق والطبائع للأحسن، هداني الله وإياك لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو.
* سهام للصيد :
أي صيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تستعطف بها القلوب، وتستر بها العيوب وتستقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعال على القلوب، وإلا فإن فضائل ومكارم الأخلاق كثيرة، إليك أيها المحب سهاما سريعة ما أن تطلقها حتى تملك بها القلوب فأحرص عليها وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف وأستعن بالله.
السهم الأول الابتسامة
قالوا هي كالملح في الطعام، وهي أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة، ( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي، وقال عبد الله ابن الحارث ( ما رأيت أحدا أكثر تبسم من رسول الله صلى الله عليه وسلم) عند أحمد بسند حسن.
السهم الثاني البدء بالسلام
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال عمر الندي (خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيرا ولا كبيرا إلا سلم عليه)، وقال الحسن البصري (المصافحة تزيد في المودة) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).
وعند مالك بالموطئ أنه صلى الله عليه وسلم قال (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) قل ابن عبد البر هذا يتصل من وجه حسان كلها.
الهدية سهم ثالث لصيد القلوب
ولها تأثير عجيب فهي تذهب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها، قال إبراهيم الزهري (خرجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي تذكر هل بقي أحد أغفلناه، قلت لا قال بلى رجل لقيني فسلم علي سلاما جميلا صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير) انتهى كلامه.
انظروا أثّر فيه السلام الجميل فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك.
سهم رابع الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع
وإياك وأرتفع الصوت وكثرت الكلام في المجالس، وإياك وتسيد المجالس وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة (فالكلمة الطيبة صدقة) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلا عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة رضي الله عنها قالت لليهود ( وعليكم السام واللعنة) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله) والحديث متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما) أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما.
قد يخزنُ الورعُ التقي لسانه …… حذر الكلام وإنه لمفوه
السهم الخامس حسن الاستماع وأدب الإنصات
وعدم مقاطعة المتحدث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الأخر كثير الثرثرة والمقاطعة، وأسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال ( إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد).
السهم السادس حسن السمت
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الله جميل يحب الجمال ) كما في مسلم. وعمر ابن الخطاب يقول ( إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح)، وقال عبد الله ابن أحمد ابن حنبل ( إني ما رأيت أحدا أنظف ثوبا وأشد تعهدا لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد ابن حنبل.
السهم السابع بذل المعروف وقضاء الحوائج
سهم تملك به القلوب وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم …….. فطالما أستعبد الإنسانَ إحسانُ
بل تملك به محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم ( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس)، والله عز وجل يقول ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى …….. مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذبا وباردا ……… على الكبد الحرى لكل صديق
أيها الأخوة والأخوات، عجبت لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه.
السهم الثامن بذل المال
فإن لكل قلب مفتاح، والمال مفتاح لكثير من القلوب خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار) كما في البخاري.
صفوان ابن أمية فر يوم فتح مكة خوفا من المسلمين بعد أن استنفذ كل جهوده في الصد عن الإسلام والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يمهله شهرين لدخول في الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسير أربعة أشهر، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والطائف كافرا، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الغنائم يرى صفوان يطيل النظر إلى وادٍ قد امتلئ نعما وشاء ورعاء، فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه ثم قال له يعجبك هذا يا أبا وهب؟ قال نعم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم هو لك وما فيه، فقال صفون عندها، ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أيها الأحبة، لقد استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه اللمسات وبهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه.
فلماذا هذا الشح والبخل؟ ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتى كأنه يرى الفقر بين عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق.
السهم التاسع إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم
فما وجدت طريقا أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك وإياك بسوء الظن بهم وأن تجعل عينيك مرصدا لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، وأسمع لقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه …… وصدق ما يعتاده من توهم
عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك ( المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم )، ومن علامات شقاء الأمة أن تشغل بنفسها عن أعدائها.
أعلن المحبة والمودة للآخرين
فإذا أحببت أحدا أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته بمنزله فليخبره أنه يحبه) كما في صحيح الجامع، وزاد في رواية مرسلة (فإنه أبقى في الألفة وأثبت للمودة)، لكن بشرط أن تكون المحبة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهر والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء (الأخلاء يوم إذا بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
والمرء مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم - يعني يوم القيامة -، إذا فاعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب. فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف، لذلك حرص صلى الله عليه وسلم على تكوين مجتمع متحاب فآخاء بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أن فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات.، بل أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشر هذه المحبة ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تأمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) كما في مسلم.
أيها الأخوة، المشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض وللأسف، فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب عقليا جامد جاف مجرد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب والتعلق بالأشخاص.
والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يأتيه من يشاء.
السهم الحادي عشر المداراة
فهل تحسن فن المدارات؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راءه قال بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأنبسط إليه، فلما أنطلق الرجل، قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عائشة متى عهدتني فاحشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس لقاء فحشه) قال ابن حجر في الفتح ( هذا الحديث أصل في المداراة) ونقل قول القرطبي (الفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا).
إذا فالمداراة لين الكلام والبشاشة للفساق وأهل الفحش والبذاءة، أولا اتقاء لفحشهم، وثانيا لعل في مداراتهم كسبا لهدايتهم بشرط عجم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرجل بما فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مداراة الناس صدقة) أخرجه الطبراني من حديث جابر، وقال أبن بطال (المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة)
إذا هذه أسهم للصيد فأحسن التسديد وهي على سبيل المثال، وذكرت منه ما أشرت إليه أنفا وإلا فهي كثيرة.
* الازدواجية في الأخلاق :
لقد شكا الكثير من التقلب والمزاجية والازدواج في الشخصية التي يعيشه بعض الناس اليوم، فمثلا الزوجة المسكينة تسمع عن أخلاق زوجها، وسعة صدره وابتسامته وكرمه، ولكنها لم ترى من ذلك شيئا، فهو في بيته سيئ الخلق ضيق الصدر عابس الوجه صخاب لعان بخيل ومنان، أين هذا وأمثاله من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) كما عند ابن ماجة وابن حبان والحاكم. وأين هو عن قول النبي صلى الله عليه وسلم (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خيارُكم لنسائهم) كما عند الترمذي بسند صحيح.
قال سلمة أبن دينار( السيئ الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته ثم ولده حتى أنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور فيسمعون صوته فينفرون منه فرقا منه أي خوفا منه، حتى أن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى أن قطه ليفر منه) انتهى كلامه.
وقل مثل ذلك مع الوالدين، فكم أولئك الذين نسمع عن حسن أخلاقهم وكرمهم وابتسامتهم وجميل معاشرتهم للآخرين، أما مع اقرب الناس إليهم وأعظم الناس حقا عليهم الوالدين فجفاء وهجر وبعد ويكفي بلاغة وقوة ورقة قول الحق عز وجل ( ولا تقل لهما أف)، ومن نظر لحالنا مع آبائنا وأمهاتنا علم ضعف إيماننا وتقصيرنا بأعظم الحقوق علينا بعد توحيد الله والله المستعان.
ومن الازدواجية أيضا، ربما ترى المرأة مثقفة متعلمة جميلة، بل ربما حرصت على صفاء وجهها وبياض أسنانها وتبذل الغالي والنفيس من أجل جمالها وأناقتها، فإذا عرفتها عن قرب وعاشرتها فإذا هي سيئة الأخلاق سريعة الغضب تتذمر وتتسخط، ترفع صوتها على زوجها وتعبس في وجه أختها.
آه لو حرصت النساء على أخلاقهن كحرصهن على جمالهن،
فليس الجمال بأثواب تزيننا ….. بل الجمال جمال العلم والأدب
اعلمي اخيتي في الله أن الجمال الحقيقي هو جمال الأخلاق والأدب، فأفٍ ثم تفٍ لجمال اللباس والشكل مع قلة الحياء والتكشف والعري وضياع القيم والمبادئ،
مررت على المروءة وهي تبكي ……. فقلت علاما تنتحب الفتاة
فقالت كيف لا أبكي وأهلي …….. جميعا دون خلق الله ماتوا
أيتها الأخت، إن الله جعل للإنسان عورتين، عورة الجسم وعورة النفس، وجعل للأولى سترا هو اللباس، وللثانية سترا هو الأخلاق ونبه على الأهم وهو الثاني لأن لباس الإنسان لا يغني عن أخلاقه ألبّته فقال عز وجل ( يا بني آدم إنا أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير).
اخيتي، إن المرأة العاقلة إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح، فأتقي الله أيتها المرأة واستري عورة النفس بلباس التقوى والحياء ومكارم الأخلاق.
ومن الازدواجية في الأخلاق ما نراه من بعض الناس من حسن الكلام وسعة الصدر والابتسامة، فإذا جاء البيع والشراء والتعامل بالدينار والدرهم تراه مماطلا مماكسا، يجادل ويخاصم وربما تلاشت معاني الأخوة وحقوقها.
قيل لمحمد ابن الحسن ألا تصنف كتابا في الزهد قال (صنفت كتابا في البيوع) يعني رحمه الله أن الزاهد هو من يتحرز عن الشبهات والمكروهات في التجارات وفي سائر المعاملات، وهذا من فقه وذكاء محمد رحمة الله عليه.
يروى أن مسروقا عليه دين ثقيل وكان على أخيه خيثمة دين فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم.
وقال مطرف ابن عبد الله لبعض إخوانه ( يا أبا فلان إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني وأكتبها في رقعة فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال).
إذا أعسرتُ لم يعلم رفيقي …… وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي ……. ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت بماء وجهي ……. لكنت إلى العلاء سهل الطريق
عن رباح ابن الجراح قال ( جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده، فقال للخادم أخرجي لي كيس أخي فأخرجته فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى فأخبرته الخادم، فقال إن كنت صادقة فأنتي حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت).
وعن جميل أبن مرة قال (مستنا حاجة شديدة، فكان مورق العجلي يأتينا بالصرة فيقول أمسكوا هذه لي عندكم، ثم يمضي غير بعيد فيقول إن احتجتم إليها فأنفقوها)
وقال سفيان ابن عيينه سمعت مساورا الوراق يقول( ما كنت لأقول لرجل إني أحبك في الله فأمنعه شيء من الدنيا).
مواقف اغرب من الخيال لكنها مكارم الأخلاق عند سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وصدق الأخوة والمحبة في الله.
نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله عز وجل حسن التأسي بهم رضوان الله عليهم.
ومن مظاهر الازدواجية أيضا أن ترى بعض الشباب يعجبك حسن مظهره، ويجذبك سحر عطره، وتصفيف شعره، ولولا الحياء لأطنبت في الوصف مما يرى ويشاهد على بعض شبابنا هذه الأيام من حرص على المظاهر والأشكال، ومع ذلك انحراف في السلوك والأخلاق فلا مانع لديه أن يكذب وأن يلعن ويشتم وربما يزني ويسرق أو يغش ويخدع، لا مانع لديه أن يتخلى عن دينه وأخلاقه من أجل شهوة، فأفسد المسكين جمال الظاهر وجمال الباطن.
أيها الشاب ليس الإنسان إنسانا بجسمه وصورته لا والله، ولا بثيابه ومظهره، بل هو إنسان بروحه وعقله وخُلقه وخَلقِه،
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ……. أتعبت نفسك في ما فيه خسرانُ
أقبل على النفس وأستكمل فضائلها …….فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
أيها الشاب، هل ينفه الفتيان حسن وجههم إذا كانت الأخلاق غير حسان، إن في قلبك فطرة الخير ففتش عنها وأشعل جذوة الخير فيها.
أيها الشاب، إن من تمام سعادتنا أن نتمتع بمباهج الحياة وشهواتها، لكن في حدود الشرع ( وأبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدنيا).
أيها الشاب، كن رحلاً رجلَه في الثرى وهامة همتَه في الثريا، وتجمل بمكارم الأخلاق والآداب فإنها زينة الرجال.
ومن الازدواجية في الأخلاق أولئك الذين نرى عليهم أثر الصلاح وسيما الخير، ثم نراهم في أفعالهم وتصرفاتهم يناقضون تلك السمات والآثار، حتى أصبحوا فتنة لغيرهم فأنت لا تسيء لنفسك فقط، بل لنفسك ولغيرك بل وربما لدينك، فإن من يرى سوء الأخلاق منك فسيقول هذه أخلاق الصالحين، وهذا هو الالتزام الذي يذكرون، فعلى هذا وأمثاله أن يراجعوا صلاحهم فقد لا يكون لهم من الصلاح إلا الاسم والرسم.
مدحوا عند القيل ابن عياض رجلا وقالوا إنه لا يأكل الخبيص، فقال رحمه الله (وما ترك أكل الخبيص؟ انظروا كيف صلته للرحم، انظروا كيف كضمه للغيظ، انظروا كيف عطفه على الجار والأرملة والمسكين، انظروا كيف حسن خلقه مع إخوانه) انتهى كلامه.
قلي بربك أيها القدوة هل الاستقامة مظهر فقط؟ أم هي حسن تعامل مع فئة من الناس فقط؟ أم أنها سلوك منك وحسن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال، ففي الحديث الصحيح ( أعظم ما يدخل الناس الجنة تقوى الناس وحسن الخلق) أخرجه الترمذي وابن ماجة.
قال ابن القيم في الفوائد (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق في هذا الحديث لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقِه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته) انتهى كلامه رحمه الله.
ويجب التنبه هنا لأمر مهم اختلط على كثير من الناس إما جهلا وهو الغالب أو بقصد من قلب في دخن ودغل وهو قليل جدا إن شاء الله.
أيها الأخوة إن تخلى المسلمون عن أخلاقهم ومبادئ عقيدتهم فليس معنى هذا أن نتهم الإسلام، أو نتردد بالالتزام بتعاليمه وشرائعه، وإلا فما معنى أن يحكم أناس مسلمون على الإسلام وعلى أهل الصدق منه بالغلو والتطرف والغلظة والفظاظة وسوء الخلق لمجرد أن منتسبا للإسلام أخطئ في تصرفه أو قوله أو تلبس لباس الصادقين من المسلمين؟
إن من أشنع أنواع الظلم أن يؤاخذ الإنسانُ بخطأ غيره فإن الله عز وجل يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى )، أين الإنصاف وأين العدل ؟ والله عز وجل يقول (ولا يجرمنكم شنأن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)، لماذا نتسرع بالحكم على الجميع ونعمم الأخطاء لمجرد أخطاء فردية؟ أين هؤلاء الشانئون من مئات وآلاف من المسلمين والمسلمات ممن نبلت أخلاقهم وعزت نفوسهم.
إنني أعرف وتعرف وأسمع وتسمع وأرى وترى أعدادا ليست بالقليلة ممن ملكوا القلوب بجمال ألفاظهم وأسروا النفوس بحسن أفعالهم، قلوب صافية وأيد حانية وألسن عفيفة، علم وعمل وحب للدين والوطن.
فلماذا لا يذكر هؤلاء ويشهر أمرهم ويتحدث عن نبلهم؟ لماذا ننظر بعين واحدة ونقع على الجروح فقط؟
انظر لنفسك أيها الحبيب، أيها الأخ الشاب وأنت تشكو من هؤلاء، ألست مسلما؟، أولست تخطئ؟ ألست تزل؟ فلربما شكا منك الناس، فأنت تشكو وأنت تُشكى. ولكن ما أجمل أن بعذر بعضنا بعضا، وأن نعفوا عن الزلات ونستر السيئات ونشهر الحسنات، تناصح وتغافر يطفئ نار الفرقة والاختلاف.
عامل الناس جميعا على أنهم بشر يصيبون ويخطئون، غُض الطرف وتغافل وأصبر فليس الغبي بسيد في قومه…….لكن سيد قومه المتغابي.
ولك أن تسرح بخيالك لترى المجتمع يعيش بهذه المعاني الجميلة فهي من أعظم مكارم الأخلاق، فإن أبيت فأتهم ذلك الشخص ولا تعمم وأتقي الله فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.